أ. محمد سامي
باحث بمؤسسة طابة
أحيانًا يطرح بعض الناس فكرة مفادها: أن الإنسان كائن لا قيمة له، حجمه صغير جدا بالنسبة إلى الكون الواسع الذي يعيش فيه، ولا يتأتى أن يكون الإنسان هو الكائن الأهم بين كل هذا الكون العظيم، وبالتالي يكون المنطق الديني الذي يجعل الإنسان هو المقصود من خلق الكون منطقًا غير مقبول بالنسبة إلى وجدان العديد من الناس.
هذه الفكرة في رأيي –مع عدم إمكان فصلها عن ارتباطها بالفلسفة الوجودية– تفتقر إلى أمرين متعلقين بالفهم الصحيح عن الله سبحانه وتعالى إما من الناحية العقدية أو من الناحية الروحية الرمزية.
فمن الناحية العقدية، يقوم هذا الإنسان الذي يعتنق هذه الفكرة بقياس الله سبحانه وتعالى على نفسه، فهو يرى أن هذا الكون الكبير عمل شاق جدًا في تكوينه، وبالتالي يتساءل: كيف يكون هذا العمل الكبير الشاق من أجل كائن ليس له حجم يذكر؟ أليس من شأن الإنسان الذي يعمل على مشروع ضخم أن يكون المقصود من المشروع ضخمًا كذلك؟ أليس من غير المعقول أن يقوم إنسان بتصميم مدينة كبيرة فخمة تصميمًا إبداعيا ويصرف عليها الأموال الطائلة ثم يقول: هذه المدينة صممتها من أجل البعوض وسخرت كل مواردها من أجله؟ ألا يعد ذلك عبثًا وإهدارًا للموارد؟
لكن المشكلة في مقارنة الله بالإنسان تكمن في أمرين: الأول أن يكون العمل بالنسبة لله سبحانه وتعالى شاقًّا وهذا الأمر مستحيل لأن الله سبحانه وتعالى يقول للشيء {كن فيكون} فلا تتصوَّر المشقة في حقه سبحانه وتعالى {ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم}. والأمر الثاني أن صاحب هذا الفكر يتوهم أن الله سبحانه وتعالى ينفق –مثله مثل الإنسان-من موارد محدودة وبالتالي يكون هذا الأمر هدرًا، والله سبحانه وتعالى يخلق الأشياء من العدم وخزائنه لا تنفذ فلا يتصور الهدر في حقه. فهذه الفكرة كما قلنا تفتقر إلى الفهم الصحيح عن الله من حيث العقيدة.
أما من الناحية الروحية الرمزية، فإننا كأمة قد فقدنا النظر إلى المعاني الرمزية التي جعلها الله سبحانه وتعالى في هذا الكون. ولعل ذلك يكمن في غلبة انشغالنا بالأمور المادية عن الأمور المعنوية والروحية كما هي طبيعة الحضارة الحديثة التي نعيش في ظلها. فصرنا لا نلتفت إلا إلى الظواهر من الأمور المادية ونغفل عن البواطن والمعاني التي تكمن وراء ما نشاهده بحواسنا. الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون بأسره ليكون دالًا عليه. فحقيقة وجود كل شيء في الكون هو اتصاله بالموجود الحقيقي الأصلي وهو الله سبحانه وتعالى. لكن الإنسان كثيرًا ما ينسى ذلك ويظن أنه مستغن عن الله سبحانه وتعالى فيتعامل مع الكون كأنه هو –أي الإنسان-هو المالك له، وأنه هو الكائن المتصرف في هذا الكون ويحل نفسه محل الإله كما فعلت الحضارة الغربية. لكن من ينظر في هذا الكون الكبير الضخم، يدرك مدى تضاؤل الإنسان من حيث حجمه المحسوس أمام الكون الكبير من حيث الحجم المحسوس بل يكاد يكون الإنسان في جانب العالم من حيث الحجم المحسوس عدمًا، فيدرك من ذلك –إن انتبه له-أن وجوده متضائل جدًا ويكاد لا يذكر بل يعتبر عدمًا أمام الوجود الحقيقي الذي هو وجود الله سبحانه وتعالى.
هذا المعنى إن فهم يتواضع الإنسان أمام ربه، ويدرك أنه في وجوده على الأرض خليفة عن الله، لا يملك الكون من حوله وبالتالي لا يتعامل مع المخلوقات إلا بالطريقة التي شرعها الله له، فلا يفسد في الأرض ولا يدمر البيئة كما دمرتها الحضارة الغافلة عن الله. وتكون صلته بربه وبالمخلوقات من حوله صلة العبد المتواضع الذي يخدم في ملك سيده طمعًا في أن ينال رضا هذا السيد فيستأمنه السيد على خزائنه الحسية والمعنوية، ويقربه إليه ويعرفه عليه، وبالتالي يحقق المقصود من خلقه وهو معرفة الله والعلم به. وبهذا يتضح لنا معنى الآية {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}
للأسف غابت عنا هذه المعاني لأننا لم نأخذ فرصة تعلم الدين بالطريقة الصحيحة، وتأثرنا بالفلاسفة الفاقدين للمعنى الذين شبهوا الإنسان بحشرة صغيرة تقف على ذرة رمل صغيرة في صحراء ضخمة، وبالتالي لا يعقل أن تكون هذه النملة هي المقصودة من وجود الصحراء. وهذا الفهم السيء ناتج كما قال الإمام أبو حامد الغزالي من انشغال الإنسان بالماديات وغفلته عن المعاني. وأختم المقال بمقولته رضي الله عنه في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد في كلامه عن المعاني الرمزية التي تعين الإنسان على عبودية الله حيث اعتبر أن وجود المعاني الرمزية هي تلطُّف من الله سبحانه وتعالى بقلوبنا إذ جعل لنا في العالم الحسي ما يدلنا على المعاني الإلهية، وأن سبب غفلتنا عن هذه المعاني هو انشغالنا الزائد بالمحسوسات والأجسام؛ قال رضي الله عنه:
«فانظر كيف تلطف الشرع بقلوب الخلق وجوارحهم في سياقها إلى تعظيم الله تعالى، وكيف جهل من قلت بصيرته ولم يلتفت إلا إلى ظاهر الجوارح والأجسام».[1] اهـ
[1] الاقتصاد في الاعتقاد للإمام أبي حامد الغزالي ص 36.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الاقتصاد في الاعتقاد للإمام أبي حامد الغزالي ص 36.