كوثر السعدني
دليلك الشخصي لرأي سليم في خلاف الفيزياء والمتكلمين
تخيل معي أنك سائق حافلة، بدأت عملك صباحا وفي أول محطة استقل الحافلة
أربعة أشخاص، في المحطة التالية استقل الحافلة ثمانية آخرون ونزل اثنان، وفي
المحطة الثالثة نزل ثلاثة آخرون بينما صعد أربعة مختلفون، الآن ما لون عيني سائق
الحافلة؟
ربما تفكر في الإجابة وربما تتسائل عن علاقة هذه الأحجية الصغيرة بالفيزياء
والمتكلمين، حسنا.. واصل القراءة لمعرفة الاثنين.
منذ فترة قريبة كتب أحد
المتخصصين في الفيزياء النظرية (د. معتز إمام) منشورا بعد اكتشافه لـــ ما يُسمى
بـــ”علم الكلام” زاعما أن الفيزياء النظرية تسخر من قضايا علم الكلام
كاستحالة التسلسل الأزلي وإمكان الأكوان المتوازية.
ثم لما استنكر الكثيرون تهكمه بعلم لا يعرفه د.معتز، وضح فكرته بتفصيل أفضل في منشور ثان:
“علم الكلام (بحسب معلومات الدكتور المحدودة فيه
على حد قوله) يقول علماؤه أن التسلسل اللانهائي غير مقبول عقلا، وأن الفيزيائيين
لا يمكنهم نفي شيء لم يُجرب، بل يقبلونه على أنه احتمال ممكن طالما لا يحمل تناقضا
رياضيا، فلا يمكنهم نفيه قطعا أو إثباته لأن الفيزياء تعتمد علي ثلاثة محاور: التجربة، الرصد، والفيزياء النظرية أو الرياضيات“.
الجدال الكلاسيكي ذاته حول
العلم والدين!
وهذه المرة فالتعارض
الذي دفع الدكتور إلى كتابة منشوريه يكمن في أن علم الكلام يقول باستحالة التسلسل
الأزلي، بينما الفيزياء النظرية لا تستطيع أن تنفي الاحتمال رياضيا، ولا تستطيع
(بالتأكيد) إثبات وجوده في الحقيقة كذلك.
والسؤال الأول لكي نبدأ الكلام بجدية سيكون: ما هي حدود الفيزياء النظرية في
قضايا علم الكلام؟ وما مدى تداخل العلمين؟ وكيف نفهم التعارض؟ وكيف نحكم هل هو
تعارض حقيقي أم لا؟
يبحث علم الكلام في الإلهيات والنبوات والغيبيات والأمور العامة (الموجودات)،
بينما الفيزياء النظريةTheoretical physics تستخدم الرياضيات لتطوير نماذج ونظريات تعبر عن الواقع، ولنأخذ مثالا على مجالات العلوم وكيفية تداخلها من خلال
الأسئلة التالية:
– لمَ كانت 1+1= 2؟
هكذا، هذا أمر بدهي واجب لا سبب له من
خارجه، وليس عدم السبب لأننا لم نكتشفه بعد مثلا، بل ليست المسألة محل بحث في
العلم التجريبي ولن تكون.
– وهل يمكن أن تكون 1+1= 5؟
لا، مستحيل.
– لكن لو
سألتك ما الذي جعل الأجسام تسقط لأسفل بدلا من أن تذهب لليمين ثم اليسار ثم تسقط
مثلا؟
لن تشعر بأن السؤال عجيب، قد لا تعرف
إجابته بالضرورة، لكنك لن تستنكره.
فلو أننا نمسك في أيدينا بقلم نكتب به، ثم
تركناه؛ سيسقط القلم لأسفل على المكتب أو الأرض، الفيزياء تبحث في كيف حدث السقوط؟
في حين أن علم الكلام سيسأل ما الذي جعل السقوط هو النتيجة المشاهدة لتركنا للقلم،
ولم يتحرك لليمين أو اليسار أو لأعلى أو غيرهم من الاحتمالات؟ ما المرجح المخصص لاحتمال
عمل قانون الجاذبية بهذا الشكل؟
وقد يبدو لغير المتخصصين أن محل البحث هو هو في العلمين، لكنه ليس كذلك، وإن تداخل
أحيانا؛ لأن البحث الكلامي وإن كان عقليا
محضا في الموجود من حيث هو موجود، إلا أنه يتعلق أيضا بالمشاهد المرئي، وبالتالي قد
يشتبك مع الاكتشافات العلمية الجديدة لأن الاكتشافات الفيزيائية ليست بحثا/ تجريبيا
محضا كذلك، بل فيها نظر عقلي فلسفي.
ولكن من يتحدث في خصوص الاشتباك بين
العلمين إما أن يكون متخصصا فيهما معا فيحق له ذلك، أو غير متخصص فلا يحسن له
الخروج عن دائرة اختصاصه؛ فقديما قالوا من
يتحدث في غير فنه يأتي بالعجائب!
وبالتالي لو أني بصفتي طالبة علم كلام تحدثت في تفسير كيفية حركة الجسم من جهة
الفيزياء سأكون مقتحمة لمجال لا أفقه فيه شيئا، بالمثل يفعل المشتغل بالفيزياء
عندما يحاول إثبات/ أو نفي قضية من جهة البحث الكلامي معتمدا في ذلك على علم
الفيزياء، ما لم يشتغل بعلم الكلام بالطبع!
ولنجاري فكرة صاحب المنشور قليلا بعد حين يقول أن الفيزياء النظرية تسمح بوجود
التسلسل الأزلي في الطبيعة بلا تناقض رياضي، فما الذي يترتب على ذلك؟ هل هذه حقيقة
قطعية مثلا؟
بالتأكيد لا.
فبعض
الأشياء في المعادلات هي مجرد افتراضات حسابية لا وجود لما يقابلها في الخارج،
فالمعادلات لا تطابق الموجودات الخارجية دائما؛ ومن أمثلة الأشياء التي
لها معادلات تعبر عنها وليس لها وجود حقيقي في خارج الذهن “هو التداخل
الهدّامDestructive
interference بين
الموجات، فافتراض
هذه المسألة هو وجود موجتين تسيران في اتجاه واحد تماما بحيث يصير ارتفاع كل موجة
مساوي تماما ومقابل تماما لانخفاض الأخرى فيلغيان بعضهما.
ولكن هذا مجرد أمر متخيل لا يحصل في الحقيقة أبدا
(وإن استطعنا أن نعبر عنه بمعادلات رياضية) لأن الموجات في هذه الحالة لن تتحرك
على امتداد طولها الموجي، فلن يكون هناك إلغاء أصلا، والتنافي والإلغاء هو
أمر ذهني رياضي فقط ولا يحصل أبدا في الحقيقة” ([1]).
فهل كان يغيب عن ذهن المتكلمين الفصل بين الافتراض الرياضي وبين الموجودات
الخارجية؟ وتحديدا في قضية التسلسل اللانهائي في الماضي؟
لنحكِ قصة قصيرة عن “برهان التطبيق” الذي نثبت من خلاله استحالة
التسلسل:
لو لدينا سلسلتان واحدة منهما تمتد من الآن إلى ما لا نهاية له في جانب الماضي،
والثانية من أيام الملك فاروق إلى ما لا نهاية له في الماضي، مع التطبيق بينهما
بالمقابلة بين أفرادهما من أولهما، وكلما طرحنا من السلسلة الأولى واحدا طرحنا في
مقابله من الثانية واحدا وهكذا، سينتج هذا أحد الاحتمالات التالية:
– أن تنتنهي السلسلتان معا؛ فتكون لكل منهما نهاية، وهو خلاف الفرض بأنهما تمتدان
إلى ما لا نهاية.
– وإن لم تفرغا يلزم مساواة الزائد بالناقص (لأن الفرض أن واحدة منهما أزيد من
الأخرى)؛ ومساواة الزائد بالناقص محال.
– وإن انتهت السلسلة الثانية فهي متناهية بخلاف الفرض، وكذلك الأولى أيضا؛ لأنها
تزيد عن السلسلة الثانية بقدر متناه (من أيام الملك فاروق إلى الآن).
إلى هذا القدر فالبرهان جيد ولا إشكال فيه ويؤدي غرضه في إثبات استحالة التسلسل،
لكن ماذا عن الأعداد؟
لو جربنا التطبيق بين الأعداد الطبيعية (1، 2، 3،4، …) إلى ما لا نهاية له، وبين
الأعداد الفردية (1، 3، 5، 7،…) إلى ما لا نهاية له فستنطبق الأعداد! وسيلزم من
هذا عدة أمور مستحيلة كمساواة الزائد بالناقص!
ممممم.. فهل وقع المتكلمون في الفخ؟
بالتأكيد لا، فكل ما يجري فيه التطبيق عندهم ضابطه الوجود؛ أي في نفس الأمر في الخارج
على الحقيقة، فليس وهميا محضا، بخلاف الأعداد التي هي أمور اعتبارية في الذهن؛ فلا
وجود للواحد أو الثلاثة أو الخمسة في الخارج، إنما توجد برتقالة، وثلاث شجرات،
وخمسة سيارات وهكذا؛ أي أن الوجود الخارجي هو للمعدودات لا الأعداد.
ونجد الإمام السعد
التفتازاني في شرح النسفية يقول:
“وهذا التطبيق إنما يكون فيما دخل تحت الوجود، دون ما هو وهمي محض، فإنه
ينقطع بانقطاع الوهم، ولا يرد النقض بمراتب الأعداد”.
وفي شرح المواقف
لعضد الدين الإيجي:
“نختار أنهما (السلسلتان) لا تنقطعان
ولا يلزم من ذلك (تساويهما في نفس الأمر) لأن هذا التساوي فرع وجودهما في نفس
الأمر.
بخلاف ما له وجود في نفس الأمر (فإنه
يلزم) فيه أحد أمرين (إما انقطاعه في نفس الأمر) فيكون ما لا يتناهى في الواقع
متناهيا فيه (أو عدمه) أي عدم انقطاعه (في نفس الأمر) فيلزم تساوى الجملتين
الزائدة والناقصة (وكلاهما محال)”.
فالمحال الممتنع الذي قصده المتكلمون هو وجود سلسلة لا أول لها
متحققة في الخارج لا في الأمور الاعتبارية،
وتجد المتكلمين هنا فرقوا بوضوح بين الوهم ونفس
الأمر، وبين ما هو مسموح به رياضيا وما هو مسموح به في الوجود الخارجي.
وبالطبع هذا البحث الكلامي لا يقتصر على
كتابي النسفية والمواقف، إنما هو بحث طويل مبسوط في مطولات الكلام للمصنفين
المختلفين، وما اقتباساتنا منهما إلا أمثلة.
والنقطة الأخيرة بشأن كلام صاحب المنشور عندما يقول:
“طيب نعمل إيه لو الفيزياء النظرية برياضياتها فقط تقول لنا إن شيئاً ما
مسموح به في الطبيعة؟ خلي بالك مش بقول إن هذا الشيء موجود، بقول إنه مسموح بيه، بلا تناقض رياضي، نعمل إيه؟ كفيزيائيين نقبل هذا الشيء كاحتمال ممكن، يعني لا نستطيع أن نستبعده“.
فهنا قاعدة هامة تجدر الإشارة لها تقول “عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود”
وبالتأكيد لا يستلزم الوجود كذلك، فعدم وجود دليل على الوجود الخارجي المرصود لا
يعني أنه موجود في الخارج قطعا ولا أنه غير موجود قطعا.
في حين أن المتكلمين يقدمون أدلة على استحالة التسلسل في الخارج في نفس الأمر، لا
تقدم الفيزياء النظرية الدليل على الوجود الخارجي للتسلسل اللانهائي، ولا دليل على
استحالته، ولا تبحث في الوجود الخارجي، الفيزياء النظرية لا تستطيع تقديم أكثر
مما فعلته بالفعل، وبعد ذلك ليس مجالها.
والنظريات العلمية لا تدعي كلها الوصول للحقيقة، بل أنها تبحث عن الحقيقة، كلما
زاد التقدم العلمي زادت معرفتنا بالأشياء من حولنا، وقد يغير العلم التجريبي رأيه
كما حدث في الأثير([2] )
مثلا: “فالأثير في علم الفيزياء هي مادة كان العلماء يظنون أنها تملأ الفضاء
الكوني، فقد اعتقدوا أن الضوء يسير في موجات، وبالتالي فإنه يحتاج إلى وسط يحمله
وهو الأثير.
وقاموا بحسابات كثيرة للأثير كحساب نسبة مرونة الأثير
لكثافته، ثم تبين أن هذا الشيء الذي تكلموا عنه، وعبروا عنه بمعادلات، لا استلزام
علميا له أصلا، بعد أن نشر ألبرت أينشتاين نظريته الخاصة في النسبية التي تبين كيف
يسلك الضوء وأنه لا يعتمد على وجود أثير”.
فهي معرفة متغيرة متطورة إذن في عدد لا
بأس به من النظريات خاصة تلك التي لم تثبت إلا رياضيا فقط وقد تكون معرفة خاطئة
كذلك؛ لذا أجده أمرا مدهشا حقا أن يسخر أحد المشتغلين في حقل من حقول العلم
التجريبي من معلومة ما يجهلها لأن الفيزياء النظرية تسمح بوجودها رياضيا! ربما
تكون السخرية مفهومة -وإن كانت غير مقبولة أيضا- من شخص يشتغل بعلم الكلام ويرى
قطعية ما يؤمن به من حقائق!
غير أن السخرية من العلوم المختلفة في حد ذاتها غير مقبولة وليس فقط بسبب
الاعتبارات الأخلاقية التي تجعل منها أمرا مذموما خاصة عندما تصدر من مشتغلين
بالعلم أيا كان، لكن لأنه لا فائدة لها حقا؟ فما الذي يكتسبه المرء عندما يكتفي
بالسخرية مما يجهل عوضا عن البحث الجاد اللائق بكل محب للعلم ومشتغل به؟!
والآن.. ماذا عن الأحجية في أول المقال؟
وماذا عن إجابة السؤال الأول: كيف أصل لرأي سليم في خلاف الفيزياء والمتكلمين؟
بالنسبة للأحجية.. فأنت قائد الحافلة، ما لون عينيك؟
وبالنسبة لإجابة السؤال.. فأنت موجود الآن هل يمكن أن تكون موجودا إذا لم تكن هناك
نقطة بدأت من عندها الأشياء؟
ما يتسلسل لا يتحصل؛ فلو أنك لكي تحصل على راتبك لابد أن يوافق مديرك ولكي يوافق
مديرك لابد أن يوافق مديره ولكي يوافق مديره لابد أن يوافق مدير آخر إلى ما لا
نهاية، لن تحصل على راتبك أبدا، فلابد من مدير تبدأ من عنده سلسلة الأوامر ولا
يحتاج لموافقة أخرى قبل منه، هذه الإجابة البسيطة بأن التسلسل مستحيل غابت عنك كما
غابت إجابة الأحجية أول الأمر بسبب المعلومات الحسابية المشتتة.
والخلاصة التي أردنا الإشارة
إليها هنا:
– أن علم الفيزياء النظرية (الرياضيات) يتعلق بما هو موجود على الحقيقة والمفاهيم
أيضا.
– وأن البحث في الوجود الخارجي لا محالة جزء منه فلسفي كما هو تجريبي وإن كان محل
البحث مختلف في الناحيتين، والفصل بين ما هو فلسفي وما هو تجريبي أمر ضروري، وأن
الحديث في نقاط الاشتباك بين الفلسفة والعلوم التجريبية يحتاج إلى متخصصين فيهما
معا، وإلا كان الحديث غير علمي.
– وأن التسلسل المحال الذي قصده المتكلمون يجري في الأمور الموجودة فعلا مثل
المعدودات، لا الأمور الاعتبارية مثل الأعداد.
– وأن السخرية لا تصل بصاحبها لأي معرفة حقيقية، بل قد تدل على قلة علمه في جهة ما
يسخر منه.
وختاما.. فالمعلومات الجانبية قد تضللك في حين
أن الإجابة بسيطة إن أعطيت البحث حقه، وكل ما عليك فعله لتكوين رأي سليم في خلاف
الفيزياء والمتكلمين أن تقرأ بهدوء وتركيز كما كانت كل ما تحتاجه الأحجية منك
لحلها أن تقرأ بهدوء وتركيز.
شارك المقال مع أصدقائك إذا راقك.. وشاركونا من منكم توصل لحل الأحجية أسرع؟