1-لماذا كتب هوكينج التصميم العظيم

للإستماع

مصطفى أحمد ثابت

باحث، مدير مبادرة سؤال

في شهر مارس من عام 2018م رحل عن عالمنا واحد من أعظم علماء الفيزياء النظريّة وأشهرهم هو البروفيسور الإنجليزي ستيفن هوكينج أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة كامبريدج، مُخلفًا وراءه حالة من الجدل العلمي والفلسفي والديني، حول منتجه العلمي، وآرائه عن الدين والفلسفة والإيمان بالخالق سبحانه.

ولعلّ السبب في هذا الجدل أن هوكنج لم يكنْ مجرّد عالم غير متديّن مثله مثل عدد كبير من العلماء في الغرب؛ بل كان واحدًا من الذين ينظرّون للإلحاد بواسطة العلم التجريبيّ، ويُقدّمون إجابات عن أسئلة الفلسفة والدين من رحم الفيزياء والكوزمولوجي، فقد كثرت أحاديث هوكنج وأجوبته عن قضايا دينية وفلسفية في آخر عشر سنوات من حياته، في لقاء مع صحيفة الجارديان الإنجليزية سنة 2011 سأله المُحاور: لقد قلتَ من قبل إنه ليس ضروريا أن نستحضر الإله لإشعال فتيل الخلق، فهل وجودنا هنا مجرد ضربة حظ؟ فيجيب هوكنج: «العلم يتنبأ أن هناك عددا من الأكوان سوف يوجد تلقائيا من لا شيء، أما الحالة التي نجد فيها أنفسنا الآن فهي مجرد محض صدفةٍ».[1]

ويقول في حديث إلى صحيفة أسبانية أثناء مشاركته في مهرجان ستارموس لعلوم الفضاء سنة 2014: « قبل أن نفهم العلوم التجريبية فمن الطبيعي أن نؤمن بخالق لهذا الكون، ولكن العلم الآن يقدم تفسيرا أكثر إقناعا لوجود الكون، هذا ما عنيته حينما قلت إننا يمكننا أن نفهم “عقل الله”، سوف نعرف كل شيء يعرفه الله، ولكن الله غير موجود، لهذا أنا ملحد». اهـ [2]

وكانت أهم أعماله وأطروحاته في هذا الجانب الذي يُقحم العلم التجريبي في تقديم إجابات لأسئلة دينية وفلسفية هو كتابه المشهور: التصميم العظيم الذي ألّفه بالاشتراك مع صديقه ليوناردو ملودينوو، وهو الكتاب الذي صنع لهوكنج شهرة في مجال المحاججة الفلسفية والدينية، فإن كتبه السابقة مثل كتاب “الكون في قشرة جوز” وكتاب “طبيعة الزمان والمكان” وكتاب “تاريخ موجز للزمن” وهو أشهر كتب هوكنج وأوسعها انتشارا كلها كانت كتبا في الكوزمولوجي والفيزياء النظرية، وكلها يمكن أن تدخل تحت مجال تبسيط العلوم أو ال ـpopular science ، ولا تتطرق لقضايا دينية أو فلسفية؛ بل إن هوكنج في كتابه تاريخ موجز للزمن الصادر سنة 1988م يقول: «طالما اعتقدنا أن للكون بداية، فإن دور الخالق واضح ولكن إذا كان الكون مكتفيا بذاته وليس له حدود أو حواف، بدون بداية أو نهاية فإن الإجابة تبدو غير واضحة: ما هو دور الخالق؟[3] ». فهوكنج هنا لا يمانع من وجود خالق مع الإقرار بوجود بداية للكون؛ إلا أنه عاد أنه سنة 2005 حينما كتب مع صديقه ليوناردو مولدينوو كتابه: “تاريخ أكثر إيجازا للزمن” وهو النسخة المحدثة والأكثر اختصارا من كتابه السابق، فقال إن الكلام على وجود الخالق ليس ضروريا.

فكتاب التصميم العظيم أو The Grand Design هو خلاصة ما يريد أن يقوله هوكنج في قضية الخلق والاحتياج للخالق؛ فإنه قد صرح في أوله وفي آخره بوضوح السبب في تأليف الكتاب، فيقول في الفصل الأول في مطلع الكتاب: «يوجد كل منا لفترة وجيزة، نستكشف خلالها جزءا ضئيلا من الكون وحسب، لكننا كبشر كائنات فضولية نتساءل ونفتش عن الأجوبة، نحيا في هذا الكون الهائل الذي يعد بدوره رحيما وقاسيا في الوقت نفسه ونحدق للأعلى باتجاه السماوات الشاسعة وعادة ما يسأل الناس عددا من الأسئلة مثل: كيف يمكننا فهم العالم الذي وجدنا أنفسنا فيه؟ كيف يتصرّف الكون؟ ما حقيقة الواقع؟ من أين يأتي كل ذلك؟ هل الكون بحاجة إلى خالق؟، معظمنا يقضي وقته في قلق بشأن تلك الأسئلة لكننا جميعا قلقون بشأنها بعض الوقت».اهـ[4]  

فيبدو من هذه المقدمة بوضوح أن تلك الأسئلة التي صدر بها هوكنج وصاحبه ملودينوو الكتاب هي الأسئلة التي سيعتنون بإجابتها في كتابهما، وهي كما يظهر للقارئ أنها أسئلة فلسفية دينية بالمقام الأول، لكنّ الذي يقوله هوكنج في كتابه هذا أن العلم أصبح هو البديل الشرعي عن الفلسفة في تقديم إجابات هذه الفلسفة، ولذلك يقول بعدها مباشرة: «كانت تلك هي الأسئلة التقليدية للفلسفة، لكن الفلسفة ماتت ولم تحافظ على صمودها أمام تطورات العلم الحديثة، وخصوصا في مجال الفيزياء. وأضحى العلماء هم من يحملون مصابيح الاكتشاف في رحلة التنقيب وراء المعرفة»[5]. اهـ فالعالم الراحل هنا لم يكتفِ بتقديم إجابات لقرّائه عن بعض أبحاث الكونيات بل حكم على الفلسفة بالموت، وصار ينقل الأسئلة والقضايا التي كان موضوعها الفلسفة وعلم الكلام واللاهوت إلى مجال العلوم الطبيعية التجريبية، فهو في هذا الكتاب عالم وفيلسوف ومتكلّم ولاهوتي في آن واحد، والغرض الأول لكتابه هو الإجابة على السؤال الرئيسي الذي ابتدأ به كتابه وهو هل الكون يحتاج إلى خالق؟ فهذا الكتاب وإن دارت أغلب صفحاته في فصوله الثمانية في على مسائل كونية متعلقة بنشأة الكون والجاذبية والقوى الكونية الأربعة الكبرى وغيرها- فالغرض من تأليفه ليس كبقيّة كتب هوكنج السابقة هو تبسيط العلوم الطبيعية، وإنما الإعلان أن الفيزياء الحديثة حكمت على الإله والأديان بالموت. ولذلك فإنه يقول في الفصل الثامن والأخير من الكتاب: «إن قوانين الطبيعة تخبرنا بالكيفية التي يتصرف بها الكون، لكنها لا تجيب على سؤال لماذا؟ وهي الأسئلة التي وضعناها في أول الكتاب: لماذا يوجد شيء بدلا من لا شيء؟ ولماذا نحن موجودون؟ وقد يزعم بعضهم أن إجابة تلك الأسئلة هي أن هناك إله قد اختار خلق الكون بهذه الطريقة. ومن المعقول أن نسأل من أو ما الذي خلق الكون، ولكن إذا كانت الإجابة هي الإله، فحينها سينقلب السؤال وحسب ليكون ومن خلق الله. من المقبول حسب تلك الرؤية وجود كينونة ليست بحاجة لخالق، وتسمى تلك الكينونة إلها، ويدعى ذلك بالعلة الأولى للبرهنى على وجود الله، ونحن نزعم مع ذلك أنه من الممكن الإجابة على تلك الأسئلة بوضوح في مجال العلم من دون استحضار أي قوة غيبية»[6]. اهـ   

فرغم إقرار هوكنج أن العلم ليس من اختصاصه الجواب عن سؤال: “لماذا” إلا أنه يدّعي بحسب رؤيته العلمية أن يقدم إجابة عن العلة الأولى لوجود الكون بعيدا عن الأديان وهو ما سيرجعه إلى الجاذبيّة.

وسوف نناقش هوكنج في جميع ادعاءاته الفلسفية التي يصرّ على أنها علمية في سلسلة المقالات القادمة بإذن الله.


[1] https://www.theguardian.com/science/2011/may/15/stephen-hawking-interview-there-is-no-heaven

[2] https://www.nbcnews.com/science/space/im-atheist-stephen-hawking-god-space-travel-n210076

[3] A Brief History of Time chapter 8 p 71.

[4] التصميم العظيم ص 13 طبعة دار التنوير بترجمة  د أيمن أحمد عياد.

[5] التصميم العظيم ص 13 ط دار التنوير ترجمة د أيمن أحمد عياد.

[6] التصميم العظيم ص 206.

قم بتقييم المحتوي