كتبه: أحمد حسين الأزهري
باحث متخصص في تاريخ الفكر الفلسفي
سأل عمير أباه وهم بالسيارة: «يا بابا، أين الله؟»؛ فسعد الأب لأن ابنه مشغول بالله، وإن كان سؤاله في ذاته لا يصح لأن الله منزَّه عن المكان، ولكن السؤال عن الله في ذاته يدل على نشاط الذهن وانشغاله بالله تعالى. فلم يتضايق لأجل خطأ السؤال في نفسه، ولكن فرح بإقبال ابنه. ولكنه أيضًا أدرك أن هذا الوقت غير مناسب للكلام في هذا الموضوع، فقال الأب لابنه عمير: «عمير، أنا سعيد أنك تسألني عمَّا يشغل بالك وذهنك، هذا أمر جميل، لكن ما رأيك أن نتكلم في هذا الموضوع عند رجوعنا إلى المنزل؟ سؤالك مهم وأنا لا أريد أن أكون مشغولًا بأي شيء آخر ونحن نتكلم فيه». هكذا أجابه الأب، لأنه علم أن هذا الأسلوب يعزز لدى الطفل ثقته بنفسه وثقته بوالده ووالدته، ويتعلم الطفل أن لكل مقام مقال وأن الموضوعات والأسئلة ليست متساوية الأهمية، ويفهم كذلك أن الموضوعات المهمة لا بد من التفرغ لها ولا يتعامل معها على هامش الحياة اليومية. فإذا أتى سؤال الطفل مثلًا إلى الأب وهو يجهز فطور يوم الجمعة أو إلى الأم وهي تقود السيارة عائدة به من المدرسة، لا ينبغي التسرع بالجواب في هذه الأثناء، لأن من الضروري أثناء نقاش مثل هذه الموضوعات الحساسة أن يكون كل طرف من الأطراف مقبلًا على الحوار بكليته غير مشغول بأعمال أخرى، لأن هذا يعزز من قدرة التواصل، سواء في الشرح أو الاستيعاب، وكذلك يمكن المتواصلين من الالتفات إلى تعبيرات الوجه الدالة على حركة الذهن والمشاعر تجاه ما يتبادلون حوله الحديث. فالأم أو الأب ليس بوسعهما حال الانشغال الالتفات إلى تعبيرات الطفل تجاه الإجابة التي يسمعها لسؤاله. ولكن لا يعني هذا أن يهمل سؤال الطفل، بل هذا من الخطر والضرر بمكان. وإنما يجب أن يُلفت نظره إلى أن مثل هذه الأسئلة لا بد من التعامل معها باهتمام حتى توفى حقها.
ثم أدرك الأب أنه ربما ينسى سؤال ابنه ويفوت ابنه الجواب، ويظل السؤال في ذهن ابنه بلا جواب، وحينما يكبر ابنه يكبر مع السؤال ويتحول إلى إشكال عقدي يصعب عليه حينئذ حله. فبعد أن وافق عمير على تناول سؤاله في وقت آخر، بادر الأب وقال له: «طيب، ماذا لو أنا نسيت السؤال؟ فأرجوك أن تذكرني بالسؤال حينما نعود إلى البيت». وهكذا أكد الأب حرصه على إجابة السؤال كما أكد أهميته، وأيضًا أشرك الابن في المسؤولية، وعلَّمه أن البحث عن الحقيقة يتطلب من الباحث أن يكون مسؤولًا عن بحثه.
عاد عمير وأبوه إلى البيت، وبعد أن أخذوا قسطًا من الراحة، تذكر الأب سؤال ابنه، فناداه، وسأله: «يا عمير، تذكر سؤالك لي ونحن في السيارة، هل الوقت الآن مناسب لكي أجيبك؟». خشي الأب أن يكون ابنه مشغولًا في اللعب، أو مرهقًا من رحلتهم التي عادوا منها، فلم يبادر بالدخول في الموضوع مباشرة، وأراد أن يحترم إرادة ولده، واستأذنه بلطف إذا كان الوقت يناسبه. وهذا يعزز مرة ثانية أهمية السؤال، ويعزز كذلك مفهوم احترام الخصوصية واختيارات الآخرين في أولوياتهم الوقتية.
رحب عمير بالنقاش مع أبيه، وأظهر استعداده لسماع الجواب؛ فقال الأب: «سألتني يا عمير: أين الله؟ وأنا سعيد أن ذهنك مشغول بالله، لأنه من علامات حبك لربنا، وهذا أمر يسعدني ويسعد والدتك بك كثيرًا.
الله، يا عمير، هو الذي خلق العالم وهذا الكون الواسع من الكواكب والنجوم والمجرات التي شاهدتها في الفيلم الوثائقي قبل أيام. كل ما في هذا العالم، كل ما في هذا المكان الضخم الكبير، الله أوجده بقدرته. وخالق هذا العالم، الله، ليس جزءًا من هذا المكان، وإلا أصبح مثلنا! تذكر حينما قرأت لك من القرآن أن الله {ليسَ كَمِثْلِه شَيْء}؟ فالله غيرنا، ليس مثلنا. نحن حينما نبني بيتًا، ندخل فيه ونخرج، ونصعد فيه وننزل، أليس هذا بصحيح؟ هذا من صفات البشر، أما الله فهو أعلى منا، ليس له مكان. ألا تراني حينما نذهب إلى جدتك أبحث عن مكان لوقوف السيارة؟ وحينما نذهب إلى المطعم نبحث عن مكان للجلوس؟ نحن البشر نحتاج إلى مكان نجلس فيه، ومكان نوقف فيه السيارة، ومكان نعيش فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى شيء، ويحتاج إليه كل شيء، فلو الله له مكان، كان الله محتاجًا إلى المكان، ولا يجوز أن يكون الله محتاجًا! حاشاه سبحانه وتعالى».
ثم ختم الأب جوابه بتوجيه عمير إلى أمر عملي حتى يتمكن من ترجمة حبه لله وتعلقه به سبحانه وانشغال ذهنه بالسؤال عنه تعالى إلى أمر عملي، فقال: «لكن الآن يا عمير، إذا أردت أن تكلم الله تعالى وتدعوه، الله علَّمنا أن نتوجه إلى السماء ونحن نناجيه ونطلب منه، حتى نتذكر أنه أعلى منا. فالله، يا عمير، هو العلي الكبير».
كان جواب هذا السؤال حاضرًا في ذهن الأب تعلمه في دروس العقيدة التي درسها على يد علماء من الأزهر الشريف، ولكنه تنبه أنه ربما يأتيه ابنه في يوم من الأيام بسؤال يتطلب منه وقتًا للبحث والمشاورة، فبدأ يتأمل كيف سيتصرف إذا ورد عليه هذا الموقف، وتذكر أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقتحم سؤالًا بإجابة غير أكيدة، وأنه لا يمكن أيضًا أن يهمِّش من شأن أسئلة ولده مهما كانت، وقرر الأب حينئذ أنه سيواجه ابنه في هذه الحالة بالحقيقة، وهو أن سؤاله سيتطلب منه بحثًا ومشاورة، وأن يطلب من ابنه مهلة حتى يأتيه بالجواب، وأن تكون هذه المهلة محددة الوقت حتى لا يمر الوقت وتضيع من ولده الإجابة. وهكذا يعلم الأب ابنه أن {فوق كل ذي علم عليم}، وأنه ليس من العيب أن يُسئل الأب عن أمر ولا يعرف مباشرة إجابته، بل الواجب أن يبحث ويسأل أهل التخصص والفهم، وأنه لا يصح التسرع بالجواب أو الإجابة ببادئ الرأي، وإنما يجب في الأسئلة، خصوصًا تلك الأسئلة من هذا النوع، التروي والتفكُّر. والفكر والروية إن لم يكونا في شأن الإجابة، كانا في شأن توصيل الإجابة في صورة تناسب استيعاب الطفل وإدراكه.