كتبه أحمد حسين الأزهري
العلم هو انكشاف المعلوم، وهذا الانكشاف له أدوات ووسائل، وبعض هذه الوسائل كشفها محدود إذ ينحصر في نطاق معين والبعض الآخر لا ينحصر في نطاق معين فكشفها غير محدود. وهذا لا يعني أنه ثمة تعارض بين هذه الوسائل، وإنما التعارض ينتج حينما يراد أن تحكم الوسيلةُ المحدودة الوسيلةَ غير المحدودة، بمعنى أن يمتحن صدق كل معلوم ثبت وانكشف بالوسيلة غير المحدودة بواسطة أدوات الوسيلة المحدودة! وهذا لا يقبله العقل البتة. ومثال هذا النزعة المادية التي اجتاحت أوروبا ثم العالم أجمع خاصة بعد الثورة الصناعية وإن كان لها إرهاصات فلسفية منذ عصر التنوير. وتتمثل هذه النزعة في الموت البطيء الذي تعرضت له الفلسفة في مقابل ازدهار العلوم التجريبي الباحثة في المادة وعوارضها. وهُمِّش البحث في الموجودات المجردة والبحث في “ما وراء الطبيعة”، حتى صار طغيان هذه النزعة كاسحًا وأصبحت الدعوى القائلة بأن كل ما لا يصح إثباته تجريبيًا فهو غير علمي كأنها من البديهيات! وهذا مبني على الأصل الذي أسسوا له باستنتاجات عقلية (!) وهو أنه لا سبيل للمعرفة إلا عن طريق الحس. ومن ثم زعموا أنه لا سبيل للعلم بشيء غير مادي، لأنه غير مدرك بالحس، ولا وسيلة للإدراك سوى الحس وما يتفرع عنه أو يعتمد عليه. ثم آل الأمر إلى إنكار وجود أشياء غير مادية. والحقيقة أن الوجود عندنا غير منحصر في الماديات، ونفي هذه القضية لا يتأتى بالبحث التجريبي الذي تقتصر أدواته على البحث في الماديات. وبالتالي لا يتلفت إلى قولهم (كل ما لا يصح إثباته تجريبيًا فهو غير علمي) لأنه هو في ذاته لا يصح إثباته تجريبيًا. وهي مغالطة تعود إلى استعمال المشترك اللفظي فإن لفظ العلم قد يراد به مطلق الانكشاف فيدخل تحته كافة أصناف المعرفة كالفلسفة وغيرها، وقد يراد به الانكشاف بواسطة التجربة. وعلى هذا المعنى الثاني يصبح معنى قولهم المذكور هو أن كل ما لا يصح إثباته تجريبيًا فهو غير منكشف تجريبيًا!
بل نقول إن مبدأ السبيبة العامة التي تقوم عليه كل ممارستنا اليومية وهو مفاد القضية التالية: كل شيء حادث لا بد له من علة أو سبب) لا يمكن إثباته في العلم التجريبي، لأن العلم التجريبي لا يمكن أن يبحث إلا العلل الشخصية، أي حالات معينة ووقائع محددة، وأما تعميم نتائج التجربة من خلال صياغة قضية كلية فلا يكون إلا بعد إثبات هذا الأصل. ثم أيضًا إثباتها، أي القضية الكلية، لا يكون بالتجربة، لأن المجرب لا يقدم على تجربته إلا وقد رسخ في ذهنه هذا الأصل.
هذا، وقد ثار بسبب طغيان هذا القول، أعني قول التجريبيين الغربيين بأن إثبات صحة ووجود الأشياء لا يتم إلا بالتجربة، شبهات ومغالطات يستند إليها ويعتمد عليها بعض الملاحدة في كتاباتهم. ومن جملة هذه المغالطات قول القائل: البحث عن وجود الإله يصح بالعلم التجريبي لأن القرآن يفسر ظواهر مادية.
ونحن نقول: العلم التجريبي لا يفسر إلا الظواهر المادية، ولكن الوحي يفسر الظواهر المادية وغير المادية. وبعبارة أخرى: الوحي يحكي الظواهر المادية، ولا يبحث في سلسلة الأسباب المادية، فغرضه الأساس هو الترقي عن المادية، والظواهر المادية المذكورة فيه ليست مذكورة لذاتها، وإنما لما يترتب عليها من فائدة روحية أو شرعية.
ثم كأن القائل استمد إباحة التعدي وهو أن يبحث بأدوات العلم التجريبي في غير الماديات بزعم مستبطن وهو أن الوحي قد تعدى خصوصيته بتفسيره للأمور المادية، ولكن ادعاء أن غير العلم التجريبي – وهو الوحي – ينحصر دوره في تفسير الأمور الغير المادية لا يثبت بالعلم التجريبي. فظهر أن الباحث بأدوات العلم التجريبي في وجود الإله قد تجاوز حدود مجاله البحثي، وتبين أنه لم يثبت التجاوز المزعوم في حق الوحي. وفي كافة الأحوال لا يوجد تلازم منطقي بين تفسير القرآن للظواهر المادية وصحة البحث عن وجود الإله بأدوات لا تبحث إلا في الماديات!
وينبغي أن نلفت النظر إلى أن ذكر الوحي لفوائد حياتية تترتب على مباشرة العبادات لا يجوِّز امتحان هذه الأقوال بالعلم التجريبي، لأن الإنسان في نظر الوحي لا تنحصر هويته في الهيكل الجسماني، فالمخاطب في نصوص الوحي هو الإنسان من حيث هو جسد وروح، لا من حيث هو بدن وكفى! فالتجريبي المشكك في صدق هذه النصوص الدينية إذا بحث فيها فإنما يبحث من منطلق أن حقيقة الإنسان هي هذا البدن المشاهد ولا يوجد وراءه شيء آخر. وكأنه بذلك يدعي التعارض والاختلاف بين الدين والعلم التجريبي. والحقيقة أن من شرط المختلفين أن يتواردوا بالنفي والإثبات على محل واحد، فينفي كل واحد منهم عين ما أثبته الآخر. فإذا أثبت الوحي ترتب فائدة من مباشرة العبادات على الإنسان ونفى العلم التجريبي ترتب تلك الفائدة، نقول: إثبات الوحي لترتب تلك الفائدة هو باعتبار أن المحل هو الإنسان المكوَّن من الجسد والروح، ونفي العلم التجريبي هو باعتبار أن المحل هو الإنسان المكون من الجسد فقط، فلم يحصل الاتفاق على محل واحد حتى يعتبر أن بين الدين والعلم اختلاف.
ومن جملة هذه المغالطات أيضًا قول القائل: البحث عن وجود الإله يصح بالعلم التجريبي لأن الإله بحسب اعتقاد المسلمين يتدخل في الحوادث اليومية.
ونحن نقول: الإله في معتقد المسلمين منزه عن المادة، فإن اعتبرت اعتقادهم في الحوادث اليومية فلتعتبر اعتقادهم في تنزهه عن المادة. والقول بأن ما يؤثر في المادي لا بد أن يكون ماديًا مثله لا يثبت بالعلم التجريبي. فالصواب أن تسأل أولًا: هل ثمة وجود غير مادي أو لا؟ ثم تسأل ثانيًا: هل يجوز أن يكون لشيء مادي علة أو سبب غير مادي أو لا؟ والإجابة عن هذين السؤالين لا يمكن للحس مباشرتها، وإنما يصح ذلك بالبحث العقلي والاستنتاج المنطقي، وهذا محله الفلسفة لا العلم التجريبي.
وهكذا يظهر أن الغفلة عن المقدمات الفلسفية التي تأسس عليها العلم التجريبي الحديث تؤدي إلى الوقوع في هذه المغالطات التي سرعان ما تتحول إلى شبهات بفضل توظيف الملاحدة لها في كتاباتهم المناهضة للدين. ولعل سبب الوقوع في تلك المغالطات هو أن تلك المقدمات الفلسفية ليست هي المقدمات المباشرة التي تستثمر منها نتائج البحث التجريبي، وقد ذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه في كتبه مثل (محك النظر) في علم المنطق أن الاستدلالات العقلية المركبة من مقدمات كثيرة أحد أخطر مثارات الغلط في التفكير. ولعلنا نوضح هذه الفكرة إن شاء الله تعالى في مقال خاص مستقبلًا.
وأخيرًا، نحن أننا لا ندعي أن كل من سقط في ورطة الجهل أو الغفلة عن تلك المقدمات هو بالضرورة ملحد أو أن تلك الورطة تؤدي بالضرورة إلى الإلحاد، بل نحكي أسوأ الأحوال. فإن هناك من تشبع بالهيمنة الزائفة للعلم التجريبي على الفلسفة ولم يلحد، ولكن رأى أن الدين والعلم التجريبي متعارضان وقد بيَّنا باختصار وجه فساد هذا الزعم. ولنا مع مزاعم العلم التجريبي أحاديث أخرى بحول الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.