عام ١٩٩٩م عرض فيلم المصفوفة The Matrix والذي نجح نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا، فعلى المستوى النقدي حصد ٤٢ جائزة سينمائية، منها ٤ جوائز أوسكار، وعلى المستوى الجماهيري كان مجموع إيراداته يربو على ال ٤٦٦ مليون دولار برغم أنه تكلف حوالي ٦٣ مليون دولار، وهو إلى يوم كتابة هذا المقال في ٢٠٢١ لا يزال يحتل المرتبة ١٦ في قائمة أفضل الأفلام تقييما في التاريخ على قاعدة بيانات الأفلام العالمية imdb.
وبدون حرق للأحداث وإنما فقط فكرة الفيلم التي تعرض في بدايته، فهي عن عالم تطور فيه الذكاء الصناعي للآلات حتى حاربت البشر وانتصرت عليهم، وأثناء الحرب قام البشر بحجب أشعة الشمس، مما حرم الآلات من مصدر طاقتها، فاستعاضت عنه باستخدام الطاقة الحيوية التي تنتجها أجسام البشر، عن طريق استنساخهم وتخديرهم في كبسولات تغذي أجسامهم وتحصد منها الطاقة، ولكن ليستمروا في الحياة كان لابد من أن يرى البشر أنهم يعيشون حياة طبيعية، فقامت الآلات بصنع برنامج محاكاة يشبه تماما حياة البشر قبل الحرب بكل تفاصيلها، برنامج المصفوفة، ووصلت أدمغتهم بهذا البرنامج فصاروا يتوهمون أنه العالم الحقيقي.
والتساؤل المطروح في الفيلم عن احتمال أن يكون عالمنا محاكاةً أو حلما، هو تصور طرحه العديدون قديما، منذ أفلاطون وتشبيهه لعالمنا بالظلال التي تلقى على جدار كهف من خارجه، مرورا بالمدرسة المثالية في الفلسفة، وحتى عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكنج والذي ذكر في كتابه (التصميم العظيم) فرضية أن نكون مثل السمكة في الحوض الزجاجي الكروي الذي ترى من خلاله الموجودات خارجه مشوهة، فلو أسقطت أمامها عملة معندية مثلا، فإنها ستراها تسقط في مسار منحني وليس مستقيما.
والمشتهر في الأوساط الفلسفية أن هذه الفرضية لا يمكن نفيها أو إثباتها undecidable question وذلك استنادا إلى افتراض وجودنا جميعا داخل هذه المحاكاة، وبذلك تنطبق على المسألة مبرهنة جودل لعدم الاكتمال Godel incompleteness theorem، والتي تثبت منطقيا أنه في أي نظام مغلق فإنه هنالك مسائل يستحيل تقرير صحتها أو خطأها من داخل النظام، وأنه لابد من وجود نقطة خارج النظام هي التي تعطي التفسير والاكتمال للقوانين داخله.
ولكن قبل أن نحاول نفي فرضية المحاكاة، دعنا نسأل أنفسنا لماذا نهتم أصلا بنفيها؟؟ – والجواب أننا نفعل ذلك لأن البعض يستخدمونها للتشكيك في يقين المؤمنين بصحة الدين وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، باعتباره متوهما، وباعتبار المعجزات الحسية مجرد سطور برمجة بإمكان مصمم المحاكاة أن يتلاعب بها، فهم لم يجدوا نقضا عقلانيا للبناء المعرفي المتماسك للدين، فعمدوا إلى الافتراضات الخيالية.
ولكن حتى بافتراض صحتها فإن تأثيرها سيكون مقتصرا على تضليل عقولنا القابعة خارج المحاكاة، فلا يمكن التشكيك في وجود وعي الإنسان وإرادته، وذلك هو القدر المشترك الذي ينطلق منه أي ممن يريد التشكيك في كل شيء، مثل الفيلسوف رينيه ديكارت، الذي شكك في حقيقة وجود كل شيء ولكن توقف عند أنه لابد من وجوده هو نفسه، لأنه هو الذي يشكك ويفكر، وهو عينه معنى الكوجيتو الشهيرة: (أنا أفكر، إذا أنا موجود) واستطاع منها باستخدام القوانين العقلية الأساسية أن يصل إلى ضرورة وجود الخالق، حيث أنها أيضا لا يمكن أن يشكك فيها لأنها هي التفكير نفسه، وهو الذي دله على ضرورة أنه موجود.
إذا فقوانين التفكير الأساسية أيضا لا يمكن التشكيك فيها، وتنطبق في جميع العوالم، مثل قانون الهوية، وهو أن الشيء هو نفسه، وقانون عدم التناقض وهو أن النقيضين لا يجتمعان، إلى آخر القوانين التي تنبني عليهما.
والآن لنسرد الحجج التي ترجح خطأ فرضية أننا نعيش في محاكاة أو حلم:
1-التعقيد والتفاصيل الدقيقة: إذا أراد أحد أن يبني محاكاةً فإنه من غير المعقول أن يبذل جهدا ضخما في صناعة تفصيلات دقيقة ومعقدة ومعظمها غير مرئي لمن صنع المحاكاة لخداعهم، وإنما الأرجح أنه سيهتم بالظاهر فقط سواء على المستوى القريب بالغ الصغر في الجزيئات والذرات، أو البعيد في الأجرام السماوية. فالواقع أن عظمة صنع محاكاة بهذا التعقيد والتفصيل المذهل تكاد تساوي عظمة صنعها على الحقيقة، وهو ما لا يتأتى إلا للخالق كامل القدرة أو مخلوق منحه الله هذه القدرة، مما يتعارض مع النقطة رقم 5 فيما سيأتي.
2-غياب أخطاء البرمجة: وحيث ذكرنا (الكمال) فإن محاكاة بهذا الحجم يستحيل أن تستمر بسلاسة دون أخطاء في البرمجة أو التشغيل، فنجد قوانين الطبيعة تختل عشوائيا، أو نشاهد ما يعرف بال glitches أو تشويش الصورة، وإلا كان صانعها كاملا كما سبق ذكره، أو قد يجادل صاحب الفرضية أنه ربما حدثت هذه الأخطاء، ثم تم محوها من ذاكرتنا، وهذا يضيف فرضية جديدة هي إمكان المبرمج من التحكم في ذاكرتنا، مما يؤثر على حرية إرادتنا التي هي جزء من وعينا، وقد سبق أن نفينا احتمال التحكم في وعي الإنسان، وإنما فقط تضليل حواسه.
3-متى بدأت المحاكاة؟ ويعضد النقطتين السابقتين أن وجود البشر على الأرض يمتد لعشرات الآلاف من السنين على أقل التقديرات، مما يعني أن المحاكاة كذلك، فيزيد من الاعتراضين السابقين، إلا لو زوّدنا تعقيد الفرضية وقلنا بأنها بدأت منذ مدة قريبة، ولكن تم زرع ذكريات الماضي في عقول أولئك الذين وضعوا فيها، وكلا الأمرين يضيف المزيد من الافتراضات للفرضية الأصلية، حيث في الأولى نفترض استمرارها لعشرات الآلاف من السنين بسلاسة واتزان، وفي الثانية نفترض إمكانية زرع ذكريات دقيقة وبالغة التعقيد في عقول البشر.
4-ماذا عن المواليد الجدد؟: ليظهر مولود جديد في المحاكاة ينبغي أن يولد طفل حقيقي خارجها، حيث اتفقنا على استحالة محاكاة الوعي البشري، وهذا يضيف تعقيدا كبيرا، حيث يلزم حدوث التلقيح والحمل صناعيا، ثم تغذية الطفل ورعايته وذلك مع توصيل دماغه بالمحاكاة منذ مولده، وهو ما يكاد يكون مستحيلا مع عدم اكتمال مخه وحواسه!
5-نفي العبث: كما أن العقل يتوصل إلى ضرورة وجود الخالق، فإنه يدرك ضرورة اتصافه بالكمال، ولذلك ينزه الخالق عن العبث وخداع كل هؤلاء البشر، وكما ذكرنا في النقطة رقم 1 فإنه لا يتأتى لمخلوق صنع محاكاة بهذا التعقيد لخداع كل هؤلاء المكلفين إلا إذا أعطاه الخالق هذه القدرة مما يعارض نفي العبث عنه.
6-نصل أوكام: هو مبدأ فلسفي ينص على أنه عندما تقابلنا فرضيتان متنافستان تأولان إلى نفس النتائج، علينا أن نختار الفرضية التي تقدم أقل عدد من الافتراضات، وذلك لأنها أكثر قابلية للدحض أو الاختبار، ويمكن صياغته باختصار بعبارة (لا ينبغي الإكثار من شيء إذا لم تقتضي الضرورة ذلك). لذا بالنظر إلى النقاط السابقة مع كل ما فيها من تكلف وتعقيد وافتراضات متراكبة؛ يخبرنا نصل أوكام أن فرضية المحاكاة لا تصح.
7- الحدس: وأخيرا فإن الحدس intuition من مصادر المعرفة الأساسية التي يُعتمد عليها في تحصيل المعرفة، وبخاصة إذا ما كان هذا الحدس مشتركا بين عموم البشر أو common sense -وهو الذي انطلق منه ديكارت كما أسلفنا- ولذلك يندر أن تجد من يأخذ فرضية المحاكاة هذه بجدية، فتؤرقه أو يتصرف بناءً عليها مثلا، بل هي من قبيل الترف الفكري الذي لا ينبني عليه اعتقاد ولا عمل، وإلا فإن من يعتقد حقا بصحة هذه الفرضية سينتحر فورا، لأنه لا يوجد مبرر لتحمل أي قدر من الألم في هذه المحاكاة، ولا أن يسعى في طلب الرزق وسد الحاجات الأساسية التي هي وهم وخداع ينبغي أن يفيق منه!
وأخيرا فإن كل هذه الحجج إنما أوردناها على سبيل التبرع، أما الأصل فهو أن (اليقين لا يدفع بالشك وإنما بالدليل).
فنحن نوقن بالحدس والعقل والحس أن “حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق، خلافا للسفسطائية” فمن أراد أن يخالف هذا اليقين فعليه عبء الدليل وليس مجرد التشكيك بالفرضيات والجواز العقلي الذي لا نهاية لاحتمالاته، فذلك من قبيل السفسطة التي لا رد عليها سوى إيلام المسفسط ثم إنكار ذلك اتساقا مع ادعائه باستحالة المعرفة، وهذه قاعدة مضطردة في كافة مناحي العلوم، حتى في العلوم التجريبية، أعني قاعدة (اليقين لا يدفع بالشك وإنما بالدليل).
فحمدا لله أن جعل المعارف اليقينية بهذا البناء المتين، وجعل تحصيلها ميسورا لكل ذي عقل، وليس قاصرا على أهل التفلسف.