محمد سامي
مدرس بقسم اللاهوت والأديان بجامعة أكسفورد
باحث بمؤسسة طابة
من أبرز المفاهيم التي قدّمها عصر التنوير للعالم كون البشرية وصلت إلى مرحلة لم تعُد تحتاج فيها إلى الدين، بدعوى أن البشر قد وصلوا لحالة من العقلانية والتحضر تجعلهم قادرين على معرفة الحقائق الكونية من خلال العلم، والتوصل إلى المفاهيم الأخلاقية عن طريق العقل، دون الحاجة إلى سلطة عليا تميز لهم بين الصواب والخطأ، سواء في العلوم النظرية أو العملية. لكنه من المعلوم لدى العقلاء أن الدعاوى الفلسفية لا تُقبَل لكون قائلها أناسا معينين، إنما تقبل الدعاوى الفلسفية بناء على قوة المقدمات والحجج التي تستند إليها، فهل دعوى استقلال العقل عن الدين تستند إلى مقدمات وحجج متينة، أم أنها مجرد دعاوى لا تعبر إلا عن تحيزات وميول شخصية لدى أصحابها؟
في السطور القليلة القادمة، سأتعرّض باختصار إلى نظريات أخلاقية قُدّمت كبدائل للدين، إلا أنها لم تنجح في أن تحل محله، والدليل على ذلك أن نفس النظريات تعاني من تناقضات نظرية تمنع من ذلك. وليس الغرض من هذا المقال الاحتجاج على متانة الأخلاق الدينية أو عن كون الدين يقدم أنموذجًا أخلاقيًا متكاملًا أو كافيًا. إنما المقصود إظهار أن مشروع استقلال العقل عن الدين لم ينجح.
هل يستقل العقل بتعريف الإنسان بواجباته؟
سنة ١٩٥٨م، كتبت الفيلسوفة الانجليزية إليزابيث آنسكومب مقالة أكاديمية في مجلة الفلسفة التي يصدرها المعهد الملكي للفلسفة في المملكة المتحدة عنوانها: ”الفلسفة الحداثية للأخلاق“، طرحت فيها أسئلة جذرية وصعبة أدت إلى ثورة في فلسفة الأخلاق. ادعت آنسكومب في هذه المقالة أن لفظ الأخلاق (morality) لم يعد له معنى في السياق الحداثي، وتعنى ههنا السياق الذي يريد أن ينظر للأخلاق بعيدًا عن وجود أمر إلهي.
ترى آنسكومب أنه من المستحيل التوصل إلى معنى الواجب الأخلاقي دون وجود موجِب، وأن وجود معنى الوجوب الأخلاقي في الخطاب الفلسفي الذي عاصرته هو بقايا مُترسِّبة لمفهوم قانوني للأخلاق ناشئ عن الموروث المسيحي لأوروبا؛ إذ كان هناك اعتقاد بوجود إله يأمر وينهى وتكون طاعته واجبه، بحيث يمكن القول إن الشخص الفلاني يجب عليه أن يطيع الأمر، وبالتالي يأتي معنى الوجوب والإلزام الذي يمكنه تسميته متعاليا على الشخص، والذي أقصده بالإلزام المتعالي أن الشخص يلتزم لكون هذا الأمر صائبًا في نفسه، وليس لمجرد كونه عُرفًا مجتمعيًا أو قانونًا وضع لأجل السياسة. ولعمق أثر المفهوم الديني للأخلاق، أي مفهوم الأخلاق المتعالي في نفوس الأوروبيين في عصر التنوير، بقي لديهم مفهوم الواجب الأخلاقي دون أن يبقى الاعتقاد بوجود موجِب، والذي بدونه لا يوجد للوجوب معنى، ومن ثَمَّ فقد الوجوب الأخلاقي معناه الفلسفي وإن كان له أثر نفسي. إذن فالوجوب بدون موجب ليس له معنى كما تقول آنسكومب، وإن لم يكن الإله —عن طريق الوحي— هو الموجب بقي لدينا أن يكون القانون هو الموجب، أو يكون العارف هو الموجب، أو يكون العقل هو الموجب بعد أن يحكم على بعض الأفعال أنها حسنة وبعضها الآخر أنها قبيحة.
هل يصح كون القانون معيارا للأخلاق؟ ههنا سيبقى سؤال: لماذا يجب على شخص الالتزام بالقانون، أو بمعنى آخر: على أي أساس يمكن اعتبار القانون موجِبًا؟ إن كان سبب كون القانون موجبًا كونه أخلاقيًا وقعنا في الدَّوْر، إذ أننا حينئذ نقول: نحن نعرف الأحكام الأخلاقية من خلال القانون، ونعرف أن القانون موجبًا لكونه أخلاقيا، لكن كيف يصح أن يستند القانون على الأخلاق التي تستند بدورها عليه؟ أما إن قلنا إننا نطيع القانون ونقر بكونه موجِبًا خوفًا من عقاب الحاكم الذي يفرض القانون، فلا يكون القانون ههنا موجبًا أخلاقيًا، إنما يكون أداة لفرض الطاعة في المجتمع سواء كان الحاكم المطاع ملتزمًا بمعايير أخلاقية أو لا، أو سواء كان عادلًا أو لا، وإن لم يكن الحاكم عادلًا، وكانت قوانينه ظالمة، كان الالتزام بالقوانين الظالمة هو الأخلاق، ويكون الفعل الأخلاقي هو الفعل الظالم. أما إن كان عادلًا، وكانت طاعة العدل واجبة ليس لكونها أحكاما عادلة، لكن لمجرد النجاة من العقوبة، فهل يقال إنَّ مَن يُطيع القانون خوفًا من العقاب شخص أخلاقي يستحق الثناء؟ وهل يمكن أن نعتبر هذه المفاهيم بدائل أخلاقية للدين؟
هذه الأسئلة نفسها هي ما سنواجِهُهُ إن قلنا إن العرف، وليس القانون هو الموجِب. ذلك أننا إن قلنا إننا سنتّبع العرف لكونه أخلاقيًا، وقعنا في نفس الدور، وأما إن قلنا إن مجرد موافقة العرف تجعل الفعل أخلاقيًا، سنجد أنفسنا مضطرين للاعتراف بكون الشخص الذي يتبع أعراف المجتمع اتباعًا أعمى شخصا أخلاقيا مهما كان هذا العرف، وإن كان هذا العرف يحتقر وبنبذ فئة معينة للمجتمع بلا سبب أو معنى، وسنجد أنفسنا غير قادرين على النقد الأخلاقي للعرف أي عرف كان.
ثم تبقى إمكانية كون بعض الأفعال قبيحة لدى العقل وبعضها الآخر واجبًا عنده، وهذا سؤال قد برع المنتمون للمذهب الأشعري في الإجابة عنه عندما خالفوا المعتزلة وناظروها. فالمعتزلة رأوا أن هناك أفعالا ينبغي أن تُجتنب في جميع الأحوال مثل القتل والكذب. لكن الأشعرية سألوا: هل هذه الأفعال قبيحة في نفسها أم أنها قبيحة بسبب السياق المحيط بها؟ فإن كان هناك طفلٌ مثلًا نعلم من حالته النفسية أنه لو عرف الطريقة التي قُتِل بها أخوه سيتسبب ذلك له في تضاعف لحالته النفسية السيئة على نحو سيجعله يعاني من ألم نفسي شديد بقية حياته، فهل يُقال إنّ الكذب في هذه الحالة قبيح أخلاقيًا، أم أنه فعل مقبول أخلاقيًا أو حتى محبذ أخلاقيًا؟ أو نضرب مثالًا قريبًا من المثال الذي يضربه الأشعرية أنفسهم وهو أن جنودا من دولة محتلة يبحثون عن أحد قادة تحرير البلد من المحتل بهدف اعتقاله أو قتله، فهل يكون أخلاقيا قولُ الحق في هذه الحالة أم أن الفعل المحمود أخلاقيًا هو الكذب؟ بل قد يقال إنّ الكذب ههنا يصبح واجبًا أخلاقيًا؟ وهذا السؤال المتعلق بالسياق لا ينطبق على الكذب فقط لكنه ينطبق على القتل، فإننا إن قلنا إنّ نفس الفعل خطأ، وليس السياق الذي يقع فيه القتل، سنجد أنفسنا مضطرين إلى القول بأن القتل دفاعًا عن النفس خطأ أخلاقي، لكن هل يمكن أن يقال إنّ القتل دفاعًا عن النفس خطأ يستحق صاحبه الذّم أو حتى العقاب؟! وإن لم يكن العقل المجرد عن الدين غير قادر على التوصل إلى كون أفعال مثل الكذب والقتل قبيحة دون الدخول في تعقيدات تخص السياق والعواقب، فكيف يستطيع الحكم على بقية الأحكام الأخلاقية؟ وهل تكون العواقب حينئذ هي المعيار الأخلاقي كما يقول أصحاب المذهب النفعي؟
هل يمكننا تقييم الأفعال على أساس عواقبها؟
عندما تم التخلي عن الدين كمعيار للأخلاق، نشأ في أوروبا العلمانية مذهبان أخلاقيان أساسيان، هما المذهب الوجوبي الذي فرغنا من الكلام عنه، والمذهب النفعي الذي يُعرف الآن بالمذهب العواقبي الذي يقول بأن الأفعال التي تزيد من مستوى السعادة أو الرخاء الإنساني هي الأفعال الحسنة، وأن الأفعال التي تنقص من مستوى السعادة أو الرخاء الإنساني هي الأفعال القبيحة. هذه النظرة تعاني من عدة إشكاليات؛ أولها أن السعادة ليس لها معيار كمي. فإننا لا يمكننا، أو على الأقل لم يمكننا إلى الآن (وبالتالي لا يمكن أن نستند على إمكانية) تحديد معيار معين تقاس به سعادة الفرد ومن ثم تكون زيادته هي سعادة المجتمع. بل إننا لا يمكننا أن نجد قيمة معينة هي القيمة الرئيسية التي نسعى لتعظيمها قدر الإمكان على حساب غيرها من القيم. فإننا إن قلنا القيمة العليا هي قيمة الحرية على سبيل المثال، فإننا سنجد أننا في كثير من الأحيان -إن لم يكن في أكثرها- مضطرين للتضحية بقيمة العدالة من أجلها. وإن جعلنا قيمة العدالة هي العليا، فإننا سنجد أنفسنا في كثير من الأحيان -إن لم يكن في أكثرها- مضطرين للتضحية بقيمة الحرية. هذا إن اختزلنا جميع القيم المنشودة في قيمتين، فكيف إذا اعتبرنا بقية القيم المنشودة في الحياتين الفردية والاجتماعية!
كذلك لا يمكننا أن نتجنّب صعوبة تكميم العواقب بتحديدها على أساس معيار كمي محض كالإنتاج الاقتصادي، كما هي الفلسفة الحاكمة على العالم إلى درجة كبيرة الآن. فالكثير ممن لا يعتبرون إلا المعايير الكمية والاقتصادية يقولون إنّ الغرض الأسمى في المجتمع هو النمو الاقتصادي، متجاهلين أنه من الممكن لمجتمع ما أن ينمو اقتصاديًا على نحو يجعل الأغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقرًا، أو على نحو يمحو ثقافة المجتمع بحيث يبقى الأفراد بلا هوية، أو على نحو يؤدي إلى تفكيك المجتمع وتدهور الحالة النفسية لأفراده كما نرى في العديد من الحالات، أو أن يكون النمو الاقتصادي للمجتمع قائما على نهب موارد الدول الأكثر فقرًا. فمما ينبغي التنبه له في هذه الحالة التفرقة بين زيادة السعادة وبين الاستسلام للغواية، فإن من أسس الأخلاق إمكان التفرقة بين ما هو أخلاقي مبدئي، وبين ما هو براغماتي يحقق للمرء مراده على حساب مبادئه، وأيضا بين ما يوفر له اللذة على حساب الآخرين. فمهما تنبهنا إلى هذه المسائل أدركنا أن بناء الأخلاق على ما يُعظّم السعادة في المجتمع، أو على ما يعظم السعادة لأكبر عدد من الناس كما يقول أصحاب المبدأ النفعي، لا يعد أساسًا تنبني عليه الأخلاق.
وقد ضربت الفيلسوفة الانجليزية فيليبا فوت عدة أمثلة شهيرة تظهر إشكالات جوهرية في المذهب العواقبي أكتفي منها بما يتعلق بما يسمى بإشكالية الترام أو عربة القطار (the trolley problem)، وهي تجربة فكرية تفرض أن قطارًا يتوجه بسرعة على قضيب، ثم يتفاجأ السائق بوجود خمسة أشخاص مربوطين بالقضيب سيدهسهم إن لم يغير مساره، لكنه إن غير مساره سيدهس شخصًا واحدًا تم ربطه بالقضيب على الطريق الآخر. ترى فوت أن هذا مثال قد يستسيغ فيه البعض أن يغير السائق مساره حتى يقتل عددًا أقل من الأشخاص، بناء على المبدأ العواقبي القائل بأن التقييم الأخلاقي يكون على حسب العواقب. لكن هناك مثال آخر ترى فوت أن أصحاب المذهب العواقبي يصعب عليهم التعامل معه، وهو يتضمن قطارًا يمشي بسرعة عالية ويتجه نحو دهس خمسة أفراد ولا يمكنه تحويل المسار هذه المرة، لكن هناك شخص يمكنه دفع إنسان ضخم البنيان أمام القطار بحيث يعطله ويوقفه. في هذه الحالة، قرار التضحية بفرد من أجل خمسة أفراد يكون أصعب من المرة السابقة.
ثم يأتي خيار ثالث أصعب، وهو وجود خمسة أشخاص في حالة صحية حرجة يحتاج كل منهم لنقل عضو حيوي حتى تستمر حياته. وتتساءل فوت: هل يمكننا قتل إنسان واحد من أجل نقل أعضائه إليهم؟ إن كانت العواقب كفيلة بإفراز مذهب أخلاقي، فإن هذا الفعل سيكون أخلاقيًا، وسيكون من الأخلاقي ارتكاب الجرائم إن كانت تؤدي إلى خير أكبر، وسيكون من الممكن والمستساغ أخلاقيًا، بل سيكون الفعل الأخلاقي هو إبادة أهل مدينة كاملة وإحلال أناس آخرين محلهم إن كان هؤلاء الناس أفضل إنتاجية وقدرة على توظيف موارد البلدة، وسيكون هذا هو النفع الأعم للعالم، بل على هذا الأساس رأى الفيلسوف الانجليزي جون لوك أن الاستعمار أمر أخلاقي إن كان المُستعمِر أكثر قدرة على توظيف موارد الأرض من أصحابها.
ثم نأتي إلى نقطة أخيرة هي كون المذهب العواقبي هادمًا لذاته. فإننا إن قلنا إنَّ العواقب هي المعيار، فسيتحتّم علينا حِساب كل عواقب الفعل حتى نعلم إن كان الفعل أخلاقيًا أم لا، هذا إن سلمنا وجود معيار واضح مثل السعادة يمكن الحكم على العواقب من خلاله. فإن قلنا بوجود هذا المعيار وأنه يمكن حسابه ومعرفته على نحو دقيق، سيكون هذا مبنيًا على حتمية ترتب النتائج على الأفعال على نحو لا يجعل للاختيار البشري وجودا، فيكون الاختيار البشري مستحيلًا ومن ثم ينهدم علم الأخلاق من أصله ولا يبقى لأي مذهب أخلاقي معنى. لكننا إن قلنا إن حساب عواقب الأفعال على نحو دقيق أمر غير ممكن حتى ندع مجالًا للاختيار الإنساني، فسنجد أنفسنا غير قادرين على أن نحسب عواقب الأفعال بطريقة دقيقة، ومن ثم سنخسر معيارنا في تقييم الأفعال، وبالتالي ينهدم المذهب العواقبي.
العودة إلى ما قبل الحداثة؟
لقد أفرزت الحداثة هذين المذهبين الفلسفيين عندما توهمت إمكانية فصل الأخلاق عن الدين، ثم مضت عقود طويلة قبل أن يكتشف أبناؤها أن المذاهب التي أفرزوها غير قادرة على توفير مذاهب أخلاقية تستطيع أن تقوم على ساق أو ألا تتناقض، بل لما قامت الحرب العالمية الثانية وجد بعض الفلاسفة الأوروبيون أنفسهم في حالة من العجز الفلسفي الأخلاقي لا تسمح لهم بإدانة هتلر كالفيلسوف البريطاني ريتشارد هير الذي قال إنه لا يمكن الحكم الأخلاقي القاطع بلاأخلاقية هتلر، مما أدى ببعض الفلاسفة إلى البحث عن أنساق فلسفية متجاوزة للعدمية الأخلاقية التي أدت إليها الحداثة فظهرت مذاهب فلسفية أخلاقية تحاول أن تستعيد الإرثين الأرسطي والتوموي للأخلاق بعد أن نبذتهما الحداثة، فنشأ مذهب أخلاقيات الفضيلة على يد فلاسفة كفوت التي سبق ذكرها وهي فيلسوفة ملحدة، وألاسدير ماكنتير الذي اعتنق الكاتوليكية بعد الإلحاد عندما وجد في القراءة التوموية لأرسطو ما يستطيع أن يوفر بديلًا فلسفيًا للمذاهب الأخلاقية الأخرى، وذهب غيرهم كجون فينيس أستاذ فلسفة القانون بجامعة أكسفورد إلى تأسيس مذهب القانون الطبيعي الجديد الذي يستند كذلك إلى قراءة تومية لأخلاق أرسطو. ولست ههنا بصدد تقييم هذه المذاهب من الناحية الأخلاقية، إلا أنني أود أن أشير إلى أن هذين المذهبين قد ظهرا من أجل تجاوز الطرح الفلسفي الأخلاقي الحداثي من خلال الرجوع إلى أطروحات ما قبل حداثية تتخلى عن الكثير من قيم التنوير لصالح قيم سابقة على عصر الحداثة والتنوير. فإن كان الوضع في الدوائر الفلسفية الأوروبية كذلك، فلماذا يصر البعض على أن يدفع بالعالم العربي والإسلامي نحو أفكار أثبت التاريخ أنها لم تنجح؟