هل يتعارض القضاء والقدر مع العدل الإلهي؟

.

بينما أتابع سير الامتحانات بالجامعة إذ فوجئت بطالبة تسير بسرعة نحو مكتب العميدة وهي تبكي، عرفت أنها جاءت متأخرة عن موعد الامتحان، وبالتالي تم منعها من دخول اللجنة. استوقفني هذا المشهد وجعلني أفكر في إصرارها ومحاولاتها بشتى الطرق دخول الامتحان، لمَ لم تتحجج هذه الطالبة بالقدر؟!  لمَ لم تذهب راضية وتقول إن الله قد كتب عليها ذلك، وأنها لم يقدّر لها النجاح هذا العام؟ لماذا لو تعلق الأمر بتحصيل منافع دنيوية أو مكاسب شخصية  تشتد الهمة ويتواصل السعي والإصرار في طلبها دون النظر والاهتمام بما كُتب علينا منذ الأزل؟

أيضا تستوقفني كثيرا حالة التردد التي نشعر بها حيال اتخاذ أي قرار في حياتنا، إن هذا التردد لجدير بأن يفتح أمامنا مجالًا للتفكير والنظر حول السؤال الأشهر؛ هل نحن في حياتنا مخيرون أم مسيّرون؟ واذا كنا بالفعل مسيّرين كما يرى البعض، أو كما يريد أن يرى، فلماذا نشعر بالتردد والحاجة إلى وقت للتفكير واتخاذ القرار المناسب أليس من المفترض أن يكون حالنا مثل الروبوت؛ ينفذ ما هو مأمور به ومبرمج عليه دون أدنى تفكير أو اختيار؟!

معنى القضاء والقدر:

إنّ البحث في القضاء والقدر يتطلب منا بيان معنيهما والمقصود بهما؛ فالقدر يعنى: التقدير والتحديد، فكل ظاهرة طبيعية وكلُّ كائن قد خلقه الله على تقدير وتحديد خاص، ولا يوجد في عالم الكون شيء غير مقدّر ولا محدّد، وإليه يشير سبحانه بقوله : “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” (القمر: 49)، وقوله سبحانه: “وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ” (الحجر: 21).

وأمّا القضاء وهو حتمية وجود الشيء بعد تقديره وتحديده، فذلك مرهون بوجود سببه التام، قال تعالى في حق السماوات: “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا” (فصلت: 12)،  وقال في حقّ الإنسان: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا” (الأنعام: 2).

هل القضاء والقدر يستلزمان الجبر؟

هذه المعاني المذكورة للقضاء والقدر قد يتخذها البعض ذريعة للقول بالجبر، وبالتالي يعتبرها أمراً مخالفاً للعدل، بحجّة انّ اللهَ سبحانه قدّر وجود كلّ شيء (القدر)، وحكم على وجوده وتحقّقه حكماً قاطعًا  القضاء)، وكتب كلّ ما يوجد في الكون في كتاب قبل وجوده. وعلى ذلك فلا محيص من الفعل والعمل، وإلاّ يلزم خلاف تقديره وقضائه أو خلاف المكتوب في الكتاب المبين.

والجواب عن هذه الشبهة إنما يتم بمعرفة أن المقضيّ وجوده من الأفعال على قسمين:

الأول: قسم فرض عليه صدوره عنه اضطراراً كالأعمال التي يقوم بها جهاز الهضم والتنفس وغيره، وهذا النوع من الفعل وإن كان ضروري الوجود، خارجاً عن الاختيار، لكنّه ليس محلًا للحساب والجزاء والثواب والعقاب.

والثاني: قسم منه قضي عليه أن يصدر عنه بالاختيار، أي أن الله سبحانه قدّر فعله وقضى عليه بالوجود في حال اختيار الانسان له. فالقضاء والقدر  بهذا المعنى ليس شيئاً إلاّ تعلق علمه سبحانه بأفعال الإنسان، ووقوعها في إطار مشيئته.

 نعم ربما يُتخذ علمه السابق ومشيئته النافذة ذريعة للجبر، وبالتالي نفياً للعدل، لكن العلم هنا نور يكشف، وليس قوة تجبر وترغم، فالجميع قبل التقدير والقضاء مكتوب في كتاب عند الله سبحانه، كما جاء في قوله تعالى: “مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” (الحديد: 22).

وفي قوله: “وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ” (الأنعام:59).

نستطيع أن نقرّب ذلك بمثال المدّرس في الفصل قد يكون لديه سابق علم بالمستوى العلمي لطلابه، وبالتالي يستطيع تحديد من سيمكنه اجتياز الامتحان فينجح ومن سيرسب، لكن هل مجرد علمه هذا هو سبب نجاحهم أو رسوبهم، هل هذا العلم هو الذي يملى على الطلبة ماذا يفعلون اثناء الامتحان ويجبرهم عليه؟ كذلك صفحات العلم الإلهي لا تتصل بالأعمال اتصال تصريف وتحريك، ولكنه اتصال انكشاف ووضوح.

فرق بين إرادتين:

إذن لا بد من التمييز بين نوعين من الإرادة؛ الإرادة التكوينية والإرادة التكليفية (التشريعية):

فالإرادة التكوينية تتم بمحض القدرة العليا على وفق المشيئة الإلهية وحدها (استقلالا)، وهي تنفذ في الناس طوعا أو كرها سواء شعروا بها أم لم يشعروا، مصداقًا لقوله تعالى: “وَربُّكَ يخلقُ مَا يشاءُ ويختارُ” (القصص: 68)، الأمر الذي فهمه المؤمنون على وجهه الصحيح، فكان قولهم واعتقادهم: “قُل لنْ يُصيبنا إلّا مَا كتبَ اللهُ لنا هو مولانا” (التوبة: 51). وهو ما نعني به  السنن الكونية؛ أي النظام السائد في العالم والإنسان، مما لا دخل لنا فيه.

أما الإرادة التكليفية فهي التي تظهر معها حرية الإنسان وتتجلى إرادته بناء على تكليفه في الحياة الدنيا، ذلك التكليف الذي لن يتحقق مع الجبر والإكراه، ولا يتوجه إيقاع الجزاء على الأعمال إلا في جو من الحرية، إذ القاعدة: لا مسئولية بلا إرادة وحرية.

فنحن نرى المريض الذي يكون طريح الفراش أمامه تقديران؛ إما أن يعالج نفسه فيشفى، أو يهمل نفسه فيستمر مرضه ومعاناته، والتقديران كلاهما من الله تعالى، والمريض حر في اختيار سلوك أي الطريقين شاء. كذلك الطالب قبل دخول الامتحان أمامه خياران؛ إما أن يجتهد ويذاكر فينجح، أو يهمل دروسه فيرسب، ومعلوم أن كل من اجتهد وذاكر فالمقدّر في حقه النجاح، والطالب لديه كامل الحرية في اختيار الطريق الذي يسلكه. وهذا هو معنى قوله تعالى: “وَهَدَيناهُ النَّجدَينِ” (البلد: 10)، أي طريقي الخير والشر والإنسان هو الذي يختار، ثم عليه أن يتحمل مسئولية اختياره بعد ذلك، قال تعالى: “مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ” (فصلت:46)، وقال أيضاً: “إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” (يونس:44).

حدود الإرادة الإنسانية في ظل الإرادة الإلهية:

نعم قد يحدث خلطٌ بين مظاهر الجبر الإلهي ومظاهر الاختيار الإنساني، فنجد بعض الناس يسأل عن حدود هذه الإرادة وهذا الاختيار، وهؤلاء يقال له: ينبغي النظر إلى الأمر نظرة تكاملية تجمع بين الجهات المختلفة، فكل فعل اختياري يتم فإنه يصح أن يُنسب إلى الإنسان على أنه السبب فيه، وإلى الله تعالى على أنه الخالق له. فالزراعة تُنسب إلى الفلاح باعتباره سبب البذر، وتنسب إلى الله على أنه سبب الوجود وخالقه، واذا أفردنا الفعل بجهة واحدة، فإن ذلك لا يعني انعدام الجهة الأخرى. غير أن هناك من يريد أن يرى جزءا واحدًا فقط من الحقيقة. ولو أن المسلمين في صدر الإسلام ساروا وفق هذه الرؤية القاصرة، واتبعوا ،هذا الفهم الخاطئ للقدر لما قامت لهم دولة ولما دخل الناس في دين الله افواجا.

إن النصوص القرآنية حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة قال تعالى:  “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” (التوبة:105)

قم بتقييم المحتوي