هل يأمر الإسلامُ الرجال بضرب النساء؟ (3)
كوثر السعدني
احترس أيها الرجل.. النساء قادمات!
لماذا علينا معشر النساء أن نستمر في الرضوخ للهيمنة الذكورية على حياتنا؟ لماذا لا نعيد تشكيل الواقع والمجتمع بعد ما نجحنا بالفعل في تغيير موازين القوة؟ ولماذا لا نعيد تفسير النصوص الدينية وننقيها من التفسيرات الذكورية لها؟
حسنا.. حاولت بعض النساء ذلك بالفعل، وسنرى هل
نجح ذلك أم لا من خلال “بحث في القرآن والجنسانية” لد.
آمنة ودود النسوية الإسلامية المعروفة:
– تفترض د. آمنة أن الاستجابة الأولية لآية سورة النساء (34) في مسألة أن يضرب الرجل زوجته كانت القبول.
– وأن الاستجابة الثانية كانت بين القرنين الثاني والثالث الهجريين في قراءة تأويلة للنص من قبل الفقهاء متأثرين فيه بسياقهم الاجتماعي، في تداخل عملي مع النص بين التطبيق الحرفي والتطبيق المشروط بالضوابط الفقهية التي بيناها في المقال السابق ، وأن هذا التداخل مخالف للتطبيق الحرفي للنص.
– وتقترح وجود مرحلة تطور ثالثة يمكن فيها تفسير كلمة “ضرب” بمعان أخرى مختلفة وردت في القرآن في سياقات مختلفة، من خلال العودة إلى معجم لسان العرب.
وفي حين تنطلق د. آمنة من أرضية عادلة تنبذ فيها العنف الحاصل في مجتمعاتنا الآن
وتأبى نسبه للمشرع، فإنها ومع عدالة فكرتها وأحقيتها في رفض كل أشكال العنف ضد
النساء -التي نوافقها عليها تماما- لا تصل بنا لشيء مفيد للأسف الشديد!
ففي مقالنا السابق عندما تعرضنا لكيفية حركة المفسرين مع النص كان أول شيء شاهدناه معا هو كيف يصل المفسرون لتحديد المعنى اللغوي للألفاظ من بين الاحتمالات الأخرى المقبولة لغويا.
وفي تعامل الفقهاء رأينا كيف وازنوا بين النص القرآني والأخبار النبوية المؤيدة للآية والمعارضة لها في حركة أصولية منهجية لفهم مراد الشرع منا.
واقتراح د. آمنة للعودة للاحتمالات اللغوية للكلمة المشكلة تعود بنا إلى المربع الأول في تفسير النص وتتجاهل جهود كل المفسرين والأصوليين والفقهاء، وهي عالمة بذلك لأنها تفترض أن هذه الجهود حدثت في بيئة ساد فيها الفهم الذكوري وهيمن على النص عامدة إلى العودة للمربع الأول لحل الإشكالية من خلال تفسير اللفظ تفسيرا لغويا لا يخضع هذه المرة للهيمنة الذكورية (المتصورة) بل يخضع للهيمنة النسوية.
وسيكون
من المفيد في هذه النقطة تحديدا أن نشير إلىى كتاب العزيز شرح الوجيز في الفقه
الشافعي كمثال وكيفتناول مسألة النشوز:
فنجد أحكام النشوز تأتي تحت فصل رئيس اسمه
“الشقاق” وهو ينقسم إلى ثلاثة
أحوال:
* الأولى ويكون النشوز منها.
* الثانية أن يكون العدوان من الزوج بالضرب والإيذاء
ومنعها حقوقها.
* الثالثة أن يشكل الأمر؛ فلا يعرف من أيهما كان العدوان.
وبقطع النظر عن أحكام كل
حالة كيلا يتشعب الحديث فالمراد فقط لفت النظر أن
الفقهاء حينما تناولوا النصوص بالمعالجة الأصولية لاستنباط الحكم الشرعي لم يكن
هذا بسطا لهيمنة ذكورية، إنما كان نظرا للنصوص الشرعية المختلفة ونظرا لمقاصد
الشريعة الكلية وحفاظا على وضع أسري مستقر
برد عدوان المعتدي أيا كان نوعه بالوسيلة التي كانت تحقق رد العدوان بأقل الخسائر
الممكنة للطرفين أملا في استدامة العشرة الصافية بينهما.
وأننا عندما نتعامل مع القرآن
نفهمه في سياق نزوله وتفسيراته اللغوية فلا تحدث القطيعة بيننا وبين النص لأن
القطيعة تحدث عندما نقرأ لفظ
“الضرب” فيتبادر إلى ذهننا الصور المهينة للعنف الأسري، ومعاذ الله أن
نقول هذا هو مراد الشارع لا الآن ولا كان كذلك قط، ونجزم بذلك من خلال الأحاديث
النبوية وفعل الرسول ﷺ مع أهله، وهذه هي الطريقة التي تخرجنا من القطيعة مع النص
القرآني لفهم أوسع منضبط.
ولا يمكننا أن نحاول فهم النصوص الشرعية بدون منهج لفهمها، فأين المنهج البديل
الذي تقترحه د. آمنة تحديدا والحركة النسوية عموما؟
العودة لمعاجم اللغة؟! ليس هذا مهملا من قبل الفقهاء حتى يُقترح كأنه أمر جديد،
وليس بهذا وحده تُستنبط الأحكام الشرعية حتى يمكن الاقتصار عليه.
الخلاصة:
أننا يجب أن نحدد مرجعية النقاش الأخلاقية لنفهم بماذا يتأثر تفكيرنا وكيف نعرف الحسن والقبيح.
أن الدين هو مصدر القيم، وكل فلسفة مختلفة تطرح قيمها الخاصة، وليس علينا قبول كل شيء ولا رفض كل شيء.
أن الشرع لا ينشئ العلاقات الطبيعية، لكن بعض أحكام الشرع معقولة المعنى ترتبط بالواقع وعلاقاته الطبيعية، فإن تغير الواقع فأدى إلى تغير المعنى، يتغير الحكم تبعا.
أن الزوجة لها حقوق عند زوجها إذا امتنع عنها تلجأ إلى القاضي لتحصيلها، وللزوج حقوق عند زوجته إذا امتنعت عنها جاز له استخدام الوسائل التي تمكنه من استيفاء حقوقه مباشرة، والعلاقة المتزنة لا تقوم على التنازع الفقهي.
أن الأصل عدم الضرب وأن حكم الضرب في الفقه الشافعي التراثي هو أنه خلاف الأولى ومعلل بتحقيق المصلحة؛ فإن انتفت حرم الضرب.
أن الضرب الحاصل الآن لا علاقة له بالضرب الذي قال عنه الفقهاء أنه خلاف الأولى، والحاصل الآن من عنف وإيذاء محرم قطعا في الماضي والآن وأسبابه مرتبطة بعوامل اجتماعية واقتصادية ونفسية وتربوية وليس بالشرع الإسلامي، والحاصل الآن سلوك مشين يجرمه الإسلام ويحرمه ويعاقب فاعله.
أن فهم القرآن يكون من خلال العودة للتفاسير، وأن معرفة الحكم الشرعي لا تكون بالعودة إلى القرآن مباشرة، بل إلى كتب الفقه، والتجديد الفقهي وتنزيل الأحكام الشرعية يكون بالعودة إلى كتب الفقه وفهم كيفية تناول الفقهاء للنصوص الشرعية وفهم علل الأحكام المعللة ثم تنزيلها على الواقع.
أن بعض العلل ترتبط بالواقع، فإذا تغير الواقع انتفت إمكانية تحقيق العلة من الحكم وبذلك يختلف الحكم، لا أن مجرد تغير الواقع يؤدي إلى تغير الحكم مباشرة.
وأن حركة المفسرين كانت حركة لغوية وتفسير للآية بالنصوص الأخرى، ثم حركة الفقهاء كانت تجمع بين اللغة وبين علم أصول الفقه وصولا إلى الحكم الشرعي فلم يكن البحث مرتبطا بكونهم ذكور متحيزين ضد النساء، أو بأن الواقع المجتمعي كان متخلفا والآن متقدما.
أن التكليف هو إلزام بما فيه مشقة فلا تأتي الأحكام الشرعية على مقتضى أهوائنا، لكنها مع ذلك تراعي مصالحنا الفردية داخل منظومة كلية.
أن الطرح النسوي لمسألة الضرب على عدالة الأرضية التي ينطلق منها يرتكب عدة أخطاء منهجية تجعله لا يساهم في حل الإشكاليات الناجمة عن اختلاف واقعنا المعاصر عن واقع التنزيل ولا يقدم منهجا بديلا يمكن العمل من خلاله.