هل يأمر الإسلامُ الرجال بضرب النساء؟ (2)

كوثر السعدني

هل يأمر الإسلامُ الرجال بضرب النساء؟ (2)

كوثر السعدني

يا ترى كيف كانت شكل العلاقات الزوجية بين النساء والرجال في الصدر الأول للإسلام؟
 حين عاشوا في صحراء جافة فقيرة الموارد شاقة الظروف المناخية مع حرارة شديدة نهارا وبرودة شديدة ليلا، هل كانت طباعهم صعبة وتعاملاتهم عسيرة؟
تحكي لنا أمنا عائشة (رضي الله عنها) قصصا كثيرة شديدة الجمال عنها مع سيدنا النبي ﷺ من كيف كان يترك لها مساحة آمنة لحياتها في شتى المواقف، ومنها أنه ﷺ لم يضرب امرأة ولا خادما له قط ([1]).

وفي رواية أخرة عن  نبينا ﷺ  قال: «استوصوا بالنساء خيرا»([2]).

وقال ﷺ  أيضا عمن يضربون نسائهم أنهم ليسوا من خيار الصحابة([3]).
كما قال ﷺ “لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم”([4]).

فكيف نفهم هذا التعارض الظاهري بين نصوص وأفعال النبي ﷺ وبين آية سورة النساء (34)؟ وكيف نعلم الحكم الشرعي في هذه المسألة؟

الإجابة في نقطتين أساسيتين:

الأولى: أن فهم القرآن يتطلب الرجوع لكتب التفسير لمعرفة مناسبة نزول الآيات وفهم معاني الألفاظ المتعددة لغويا [مثال: لفظ “القرء” في القرآن: اختلف حوله المفسرون هل معناه الطهر أم الحيض لأن اللفظ يحتمل المعنيين لغويا]، وغيرها من الاحتمالات التي ترد على أي نص؛ لأن النصوص حمالة أوجه.

ثم بعد ذلك تأتي الثانية وهي أن القرآن أحد المصادر الأساسية للتشريع مع السنة والإجماع والقياس فلا نأخذ الحكم الشرعي من القرآن وحده مباشرة عندما نقرأه؛ لأن معرفة الأحكام الشرعية تحصل من خلال العمل على الجمع بين نصوص القرآن والحديث، والإجماع على بعض الأحكام، ثم القياس حال الحاجة إليه، وهو دور الفقهاء الذين أنتجوا لنا علم الفقه على المذاهب الأربعة الكبرى في الإسلام.

فكيف نظر المفسرون  إلى آية سورة النساء؟

حاولوا فهم معنى الخوف في {تخافون نشوزهن} المقصود في الآية، وهل هو الظن أم العلم بالنشوز؟ فيأتي بعض المفسرين بقول {ابن عباس: تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون}، ويأتي بعضهم بأن الخوف على بابه  في اللغة من ضد الأمن، فالمعنى: يحذرون ويتوقعون، لأن الوعظ والهجر إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف منه.

ثم هل جاءت الأفعال المختلفة (فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) من الأدنى للأعلى لتدل على وجوب الترتيب بها؟ وهل جاء حرف العطف “الواو” على أصله فيكون للجمع بين الأفعال الثلاثة أم جاء للترتيب بحسب الأحوال المختلفة؟

–          وما هو الوعظ المقصود في الآية؟ وهل الهجر هو هجر مكان النوم، أم للبيت كله وذكر المضجع كان على سبيل المجاز، أم هجر للكلام معها؟ ولو كان هجرا للكلام معها فإلى متى يطول وخاصة مع وجود حديث آخر يمنع الزيادة على ثلاثة أيام في هجر المسلم لأخيه المسلم؟ ومنهم من فسر الهجر على أنه الربط من هجر البعير أي ربط البعير بالهجار، ووجود خبر ضعيف فيه المعنى ذاته، لكن جاء الزمخشري صاحب تفسير الكشاف وقال هذا من تفسير الثقلاء.

فنرى هنا كيف تكون حركة المفسرين في التعامل مع الاحتمالات اللغوية، ثم نقاشهم العلمي اللغوي لاستبعاد احتمال أن يكون الهجر معناه من هجر البعير، ورفضهم للفهم البعيد الخاطئ لمفسر من المفسرين الكبار حتى لو قُبل لغويا.

وما معنى النشوز الذي تتحدث عنه الآية؟  فنجدهم يبحثون عن المعنى اللغوي: النشوز أي  العصيان، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض.
فهل العصيان المقصود هو أن تأتي بفاحشة الزنا؟ أم  هو فعل دون ذلك؟

    فنجد في تفسير القرطبي سوق لحديث نبوي  في حجة الوداع يفسر من خلاله النشوز أن الرسول ﷺ قال: (ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ).
 قال: هذا حديث حسن صحيح، وقوله: (بفاحشة مبينة) يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم، وليس المراد بذلك الزنى، فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد، فيمكننا بالتأمل هنا أن نفهم كيف يفكر المفسر فهو يضع الاحتمالات الممكنة للمعنى اللغوي ثم يستثني منها ما نعلم يقينا عدمه بدليل آخر.

ثم في تحديد قدر الضرب نجد: وقد قال ﷺ: (اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح)، قال عطاء: قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح؟ قال بالسواك ونحوه.

كل هذا البحث في تفسير الآية بحث لغوي وتفسير للقرآن بالقرآن وبالأحاديث وبالمأثور، وإذا تأملنا في التفاسير الكبرى  بداية من تفسير الطبري مرورا بتفسير الزمخشري والرازي والقرطبي والبيضاوي وأبو حيان والسيوطي وصولا لتفسير الألوسي لن نجد طريقة مختلفة في النظر للمباحث اللغوية وللنصوص المختلفة التي تتناول موضوع الآية الكريمة، لكننا نجد بدءا من تفسيري المنار لمحمد رشيد رضا المتوفى ت 1354هــ عن محمد عبده، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور المتوفى ١٣٩٣ هــ طريقة مختلفة في التعامل مع الآية، فبجانب البحث اللغوي والشرعي نجد اجتهادا فقهيا.

فيقول الطاهر بن عاشور في تفسيره: ” احتجوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزوج في ضرب زوجته الناشز، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة، وعندي أن تلك الآثار والأخبار محمل الإباحة فيها أنها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس، أو بعض القبائل، فإن الناس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعدون ضرب المرأة اعتداء، ولا تعده النساء أيضا اعتداء.

وقد ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب قال: كنا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فأخذ نساؤنا يتأدبن بأدب نساء الأنصار.
فإذا كان الضرب مأذونا فيه للأزواج دون ولاة الأمور، وكان سببه مجرد العصيان والكراهية دون الفاحشة، فلا جرم أنه أذن فيه لقوم لا يعدون صدوره من الأزواج إضرارا ولا عارا ولا بدعا من المعاملة في العائلة، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلا بشيء من ذلك.

وأول عطاء إذ قال: لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها. قال ابن العربي: هذا من فقه عطاء وفهمه الشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب هنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى كقول النبيء ﷺ «ولن يضرب خياركم».
وأنا أرى لعطاء نظرا أوسع مما رآه له ابن العربي: وهو أنه وضع هاته الأشياء مواضعها بحسب القرائن، ووافقه على ذلك جمع من العلماء، قال ابن الفرس: وأنكروا الأحاديث المروية بالضرب. وأقول: أو تأولوها. والظاهر أن الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين فأذن للزوج بضرب امرأته ضرب إصلاح لقصد إقامة المعاشرة بينهما؛ فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديا.

ويختم الطاهر بن عاشور تفسيره ملخصا:
” وأما الضرب فهو خطير وتحديده عسير، ولكنه أذن فيه في حالة ظهور الفساد… على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة، بيد أن الجمهور قيدوا ذلك:

 بالسلامة من الإضرار.

2-      وبصدوره ممن لا يعد الضرب بينهم إهانة وإضرارا.

 فنقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع”. اهـ

وكيف تعامل الفقهاء مع النصوص المختلفة وما الحكم؟

  تأتي وظيفة الفقيه المجتهد أكثر تركيبا من المفسر، فليس عليه أن ينظر في تفسير الآية فقط، بل وأن يجمع بينها وبين النصوص الحديثية الأخرى التي تبدو متعارضة معها، فينظر في هل هذه النصوص قطعية الثبوتوقطعية الدلالة([5]) وما ترتيب هذه النصوص فيكون منها عام ومخصص([6])، أو ناسخ ومنسوخ([7])؟

ولكي نفهم كيف يتعامل الفقهاء لاستنباط الحكم الشرعي نقرأ في كتبهم؛ فنجد في كتاب الحاوي الكبير للماوردي الشافعي:
 فصل: فأما ما ورد من السنة في إباحة الضرب وحظره وقد رُوي عن النبي أنه قال: “لا تضربوا إماء الله” فنهى عن ضربهن، وهذا مخالف للآية في إباحة الضرب.

 وأيضا ورد خبر عن عمر بن الخطاب فيه إذن بالضرب عن النبي ﷺ.

فيشير صاحب الكتاب للنصوص المختلفة عن الضرب ثم ييجيب عن التناقض الظاهري في النصوص بالاحتمالات الممكنة:
– أن إباحة الضرب في النشوز فقط، وأما الخبر الآخر الذي ينهى عن الضرب ففي غير النشوز، فإذن الضرب مباح فقط في حالة محددة ومنهي عنه في أي شيء آخر.
– أو أنه أباح الضرب على سبيل الجواز (أي يمكن استخدام هذه الوسيلة، لا أن الشرع يأمر بها) ونهى عنه اختيارا، فيكون الضرب مباح لكنه خلاف الأولى (وهو معتمد المذهب الشافعي).
– أو أن خبر النهي منسوخ بخبر الإباحة، ثم جاءت الآية تشرح موضع الإباحة.

  وفي نهاية المطلب للإمام الجويني نجده يقرر أن الأصل عدم الضرب.

  وهذا في مرحلة التفكير الفقهي التأسيسي المبكر، ثم لما استقر الأمر على أن النصوص يمكن الجمع بينها ليكون حكم الضرب خلاف الأولى تأتي مرحلة توضيح الصورة التي يكون فيها الضرب مباحا، فيأتي تعريف النشوز وأن الوعظ مندوب، ثم إباحة الضرب وأنه خلاف الأولى وشروطه كي يكون مباحا، فنجد من الشروط:

أن الضرب مباح بشرط أن يعلم إفادته، فإن علم أنه لا يفيد يحرم لأنه عقوبة بلا فائدة.

وألا يكون مدميا أو مبرح وإن لم ينفع غيره فيحرم الضرب، الخفيف والمبرح كذلك.

وأنه لا يضرب شفاء لغيظه، بل للمصلحة.

فالحكم المستقر في  أحد المذاهب الأربعة في الفقه ((التراثي)) أن الضرب خلاف الأولى وأنه مباح في حدود شديدة الضيق فليس هو الضرب الذي يحدث الآن الذي فيه تكسير عظام وجروح وندوب وامتهان للزوجة وعنف وغضب ودموية وتشف وغليل، وأن الضرب الذي أباحه الفقهاء المعنى فيه هو الإصلاح؛ فإن انتفى المعنى انتفى الحكم، بل ويحرم حينئذ.

  وتحقق الإصلاح كان ممكنا بهذه الصورة بشروطها المذكورة، فإن فُرض استمرار تحقيق الإصلاح بهذه الوسيلة فسيظل الحكم قائما على ندرة وجود هذه الحالة الآن فالحكم الشرعي يدور مع علته وجودا وعدما، فإذا انتفى معنى الإصلاح لأي سبب يرجع لطبيعة المرأة أو للعرف أو لأحوالها المادية والاجتماعية يصبح الضرب محرما وهو الواقع في أغلب المجتمعات الآن.

لكن أليس ممكنا أن هذا بسبب التفسير الذكوري للنصوص؟ وأننا إذا أعدنا قراءة النصوص مجددا  بنظرة أنثوية سنصل إلى نتيجة مختلفة الآن؟
هذا ما نجيب عنه في مقالنا القادم..


[1]  أخرجه مسلم (2328)، والنسائي في (السنن الكبرى) (9163)، وأحمد (24034) مطولاً، وأبو داود (4786) باختلاف يسير، وابن ماجه (1984) واللفظ له.

[2]  أخرجه الترمذي (1163)، وابن ماجه (1851)، والنسائي في (السنن الكبرى) (9169)، من حديث عمرو بن الأحوص .

 أخرجه أبو داود (2146)، وسنن ابن ماجة (1985)، والحاكم في المستدرك (2/188)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (14315).[3]

[4]  أخرجه البخاري (4908) واللفظ له، ومسلم باختلاف يسير (2855).

[5]  النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تنقسم من حيث القطعية والظنية إلى أربعة أقسام: فهى إما قطعية الثبوت والدلالة، وإما ظنية الثبوت والدلالة، وإما قطعية الثبوت ظنية الدلالة، وإما ظنية الثبوت قطعية الدلالة.
ويراد بثبوت النص نسبته إلى مصدره، ويراد بالدلالة: مفهوم النص الدال على الحكم المستنبط منه.

[6]  العام هو اللفظ المستغرِق لجميع ما يصلُح له مِن غير حصْر، و العام الذي لم يُخصّص ظاهرٌ في العموم، لا قطعي فيه، فهو ظنِّي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خُصِّص كان ظنيَّ الدلالة أيضًا على ما بقِي مِن أفراده بعدَ التخصيص.

[7]  النسخ هو: رفع حكم شرعي بدليل شرعي.

قم بتقييم المحتوي