محمد سامي
باحث بمؤسسة طابة
“دل كثرة الاختلاف على أن التمايز بين الصحيح والفاسد صعب، لكن صعوبته لا توجب عدم إفادة النظر الصحيح.”
الإمام الفرهاري الهندي/ شرح العقائد النسفية ص 147
الحمد لله،
من الأمور التي يستغربها الكثير من الناس اليوم، خاصة من يخوض منهم في الفلسفة والنظر العقلي، ومن له دراسة في العلوم الاجتماعية واختلاف المذاهب فيها، ومن اختلط بأناسٍ من أديان ومعتقدات مختلفة، قدرة البعض على التأكيد على أنهم يعرفون الحقيقة المطلقة. فالعالم مليء بأناس يدّعون أنهم يعرفون الحق، ومليء بالنزاعات والخلافات التي لا تظهر فيها مزية لأحد الآراء على الأخرى.
أنا أرى أن هذا الاستغراب مشروع ومتفهَّم لكنه لا يؤثر على صحة القول بأن هناك حقيقة مطلقة في شيء؛ ذلك لأن هذا الـمُستغرِب إما أن يكون استغرابه من فكرة وجود حقيقة مطلقة، أو من إمكان العلم بها فتكون هذه الحقيقة موجودة لكن معرفتها بشكل موضوعي غير ممكنة.
أما القول الأول: وهو أنه لا توجد حقيقة مطلقة فهو متناقض في نفسه، لأن القول بأنه لا توجد حقيقة مطلقة هو ادعاء أن الحقيقة المطلقة أنه لا توجد حقيقة. فيكون القائل بهذا القول منكرا لوجود حقيقة مطلقة مع ادعائه أنه ثمة حقيقة مطلقة موجودة وهي أنه لا توجد حقيقة مطلقة.
أما القول الثاني: وهو أنه لا توجد حقيقة مطلقة نابع من كثرة الاختلاف بين الناس. ففي مجال الأديان، المسلم يعتقد أنه على الحق وأن من سواه على الباطل، والمسيحي يعتقد أنه على الحق وأن من سواه على الباطل، واليهودي يعتقد أنه على الحق وأن من سواه على الباطل … إلخ. وفي العلوم الاجتماعية الماركسي يعتقد أنه على الحق وأن من سواه على الباطل، كذلك الليبرالي الجديد، كذلك الواقعي. وفي العلوم التجريبية كذلك نجد مدارس تدعي كل مدرسة أن تفسيرها للظواهر التي يدرسونها هو الصواب. وفي هذا الموقف يقف الباحث موقف المحتار الذي يرى تكافؤ أدلة الفرق المتنازعة ولا يرى مزية لدليل على الآخر. وهذه الحيرة هي التي تزهِّده في الحقائق وتورثه القناعة بأن الوصول للحقيقة متعذِّر لا يظفر به طالب.
هذه الحيرة التي تحصل للباحث يظهر لي أن لها سببين. الأول: عدم التفرقة بين ما هو قطعي وما هو ظني، والثاني غياب المعيار الذي به يُحكم على صحة الأفكار وفسادها.
هناك أمور ظنية وأمور قطعية. فالعلوم الاجتماعية مثلا مليئة بالفعل بالاختلافات بين مدرسة وأخرى. ففي الاقتصاد مثلا تجد بعض المتخصصين يرون أن أفضل سبيل للخروج من الأزمات هو الإنفاق الحكومي لأن القطاع الخاص يؤثر السلامة في وقت الأزمات، والبعض يرى أن السبيل هو الحد من الإنفاق الحكومي حتى تزداد ثقة القطاع الخاص في الحكومة، ولكل منهما وجهة نظر. وما زال الاقتصاديون مختلفين في ذلك وكل يقدم أدلته دون أن تميل كفة إحدى المدرستين على الأخرى بدليل عدم وقوع الاتفاق بالرغم من استمرار النقاش لعشرات السنين. لكن هذه الأمر يظل ظنيَّا يقبل الاختلاف، ولا ينبغي التعامل مع كل شيء على أنه ظني.
هناك كذلك أمور قطعية، من ضمنها مثلا كون الواحد نصف الإثنين، وكون مساوي المساوي مساوي. فأنا إن قلت إن محمدا في نفس طول سارة، وسارة في نفس طول عائشة، يلزم الوصول إلى نتيجة أن محمدا نفس طول عائشة. هذه نتيجة قطعية لازمة من المقدمتين الأولتين على اعتبار صحتهما. فمهما تكوَّن الدليل من مقدمات كلها يقينيةـ فما الذي يمنع من أن تكون النتيجة يقينية مطلقة؟
قالوا في تعريف علم المنطق أنه آلة تعصم مراعاتها الذهن عن الوقوع في الخطأ. ومن المهم الالتفات في هذا التعريف إلى أن مراعاة الآلة هي التي تعصم الذهن عن الوقوع في الخطأ، لا الآلة نفسها هي التي تعصمه. وهذا مهم، إذ أنه من الممكن أن يكون الشخص دارسا للمنطق، مخطئا في طريقة استخدامه التي هي مراعاته ويكون كالذي يحمل السيف لكنه لا يستخدمه في الدفاع عن نفسه.
إذن، كما كتبت أعلاه، هناك أمور ظنية تقبل الاختلاف، وأمور قطعية لا تقبله. وهذه الأمور القطعية لها قواعد ومعايير مستفادة من علم المنطق يجب مراعاتها من أجل الوصول للحقيقة، والعقل هو المعيار الذي به نعرف إن كانت قواعد المنطق مطبقة في الاستدلال أم لا.
والاستدلال حتى يؤدي إلى حقيقة مطلقة يجب أن يتوفر فيه شرطان: الأول الذي يسمى صحة مادة الدليل هو أن تكون كل المقدمات المستخدمة في الاستدلال يقينية، فلا تكون النتيجة اليقينية مبنية على معلومة ليست يقينية. والثاني الذي يسمى صحة صورة الدليل هو أن تكون هذه المقدمات اليقينية مرتَّبة ترتيبا يسمح بأن نتوصل من خلاله إلى نتيجة. فمهما كان الدليل مؤلفا من مواد يقينية وصورته صحيحة كانت النتيجة يقينية حقيقية لا تقبل الخلاف.
ومن الكلام السابق نتوصل إلى أن الخلاف الواقع بين الناس إما أن يكون بسبب أن بعض الفرق تستخدم مقدمات غير يقينية أو أن هناك خللا في الطريقة التي تجمع المقدمات ببعضها البعض إلى أن تؤدي إلى نتيجة. ويكون واجب الناظر في القضايا الخلافية هو أن ينظر في أدلة كل فريق يدعي أنه على الحق ويكون محل بحثه في صحة مادة الدليل وصحة صورته.
والعاقل لا ينكر قول القائل لمجرد أنه ادعى أنه على الحق، بل يفتش في دليل هذا المدعي ويبحث عن فساد مادة دليله أو صورته، وإن لم يجد هذا الفساد فلا يحق له الاعتراض على قول لمجرد أنه خالف اعتقادا مسبقا لديه. فإن اعترض لمجرد مخالفة اعتقاده المسبق يكون هذا هو عين التعصب والجمود.
وهذا القول بأن الحقائق لا يتوصل إليها هو نتيجة الفلسفة الحداثية التي أخطأت كثيرا في استخدام العقل إلى أن فقدت الثقة فيه واعتبرت أنه لا سبيل إلى معرفة الحقيقة من خلاله. ولعلي أتعرض في المقالة القادمة إلى سبب التوصل إلى هذا الفقدان للثقة في العقل.
اللهم نوِّر عقولنا وقلوبنا حتى يتضح إلينا الحق بغير التباس وأعنّا على اتباعه يا معين.