أحمد حسين الأزهري
ألاحظ أن العديد من الأسئلة التي تشغل أذهان الشباب عن الله سبحانه وتعالى تدور بين تطرفين، تطرف في تصور الإله، وتطرف من جهة أخرى في تصور الإنسان، وكل منهما يغذي الآخر.
أما التطرف في تصور الإله فأقصد به تلك الصورة الذهنية المرتسمة في أذهان كثير من الغربيين من أن الإله رجل ضخم يجلس على عرش مذهب في أعلى أعالي الكون، وحوله ملائكة بأجنحة بيضاء، يتدخل أحيانًا في حياة البشر، ويتوقف عن التدخل أحيانًا أخرى، لدوافع وأغراض غير معلومة.
وهذه الصورة الذهنية انتشرت عندنا كذلك في بلاد العرب والمسلمين لعوامل شتى. نعم، ليست على نفس النمط الغربي، ولكن بنفس الفحوى. فبعض الشباب المسلم اليوم يظن أن رحمة الله تعالى كرحمة المخلوقين، ميل قلبي ورقة مشاعر! ويظن أن انتقام الله تعالى كانتقام المخلوقين، ثأر وانتصار للنفس! ويظن كذلك أن إرادة الله تعالى كإرادة المخلوقين، تسبقها دوافع وأغراض، وتؤثر عليها الميول والرغبات!
وقد أنتج هذا التصور المتطرف للإله تصورًا متطرفًا للإنسان. وهو التصور أن الإنسان محور الكون، وله فيه السيادة العامة والتصرف المطلق، ويخضع كل أمر من أمور الكون وكل شأن من شؤونه إلى معايير الإنسان وأحكامه. وكأن الصورة الخاطئة للإله خلقت فراغًا معرفيًا وغيابًا وجوديًا في نظرة الإنسان للكون والوجود، وبدلًا من أن يبحث عن تصحيح تصوره للإله، وضع نفسه مكانه، ليسد الفجوة الوجودية (الأنطولوجية).
وهذه النظرة المتطرفة للإنسان إذا واجهت النظرة المتطرفة للإله تفرز لنا مجموعة من الدعاوى، مثل: الإنسان يصلح ما أفسده الإله! ومثل: إذا كان ثمة إله وبعث وحساب، فإذا سألني الإله عن كذا، فسوف أسأله عن كذا! ونحو ذلك من إطلاقات. وتفرز لنا كذلك مجموعة من الأسئلة، مثل: لماذا لم يأخذ الإله رأينا قبل أن يخلقنا؟! ومثل: لماذا فعل الإله كذا ولم يفعل كذا؟! ونحو ذلك من أسئلة.
والمشكلة في هذه الأسئلة لا أنها تحتوي على مغالطات ضمنية، فمثلًا سؤال: لماذا لم يأخذ الإله رأينا قبل أن يخلقنا؟ يستلزم أن العدم يؤخذ رأيه: هل يكون أو لا يكون! ولكن المشكلة الأكبر في تلك الأسئلة هي المشكلة الأعمق، وهي التصورات الخاطئة التي عنها تنبثق الأسئلة.
ومن هنا نلتفت إلى أمرين من الخطورة بمكان:
الأول: أن التقليد في الأسئلة أخطر من التقليد في الأفكار، لأن التقليد في الأسئلة مركب وغير مباشر. فما من سؤال إلا وينطوي على منطلق أو مجموعة من المنطلقة هي بالنسبة للسائل كالمسلمات، فمن يقلد شخصًا ما أو مجموعة من الأفراد في سؤال ما، هو لا يقلدهم في السؤال فحسب، وإنما يقلدهم أيضًا في المنطلقات والأفكار التي أبرزت هذا السؤال إلى الوجود. وفي كثير من الأحيان لا يظهر للسائل المسلمات التي يتضمنها السؤال ويشتمل عليها. ولذا فإن التقليد في الأسئلة أخطر من التقليد في الأفكار.
الثاني: أهمية دراسة «قواعد العقائد» وفق منهج أهل السنة والجماعة الذي نقل إلينا بالسند، ليس فقط لاشتماله على التصورات الصحيحة للمفاهيم الدينية، بل لدعوته إلى تصحيح المفاهيم قبل الولوج في القضايا والأحكام والمعتقدات.
فإذا عدنا إلى التصور الأول الذي بدأنا به حديثنا، وهو التصور المتطرف للإله، وجدنا أن المشكلة في هذا التصور عالجها منهج أهل السنة في أكثر من موضع من مواضع درس العقيدة.
عالجها مثلًا في موضع إثبات أن من صفات الله تعالى الواجبة له سبحانه مخالفته للحوادث. والمقصود بالحوادث: المخلوقات، يعني: كل شيء دخل في الوجود وسبق وجودَه العدم. ومعنى هذه الصفة عدم مماثلته سبحانه لشيء من المحلوقات في الذات، ولا في الصفات، ولا في الأفعال. فذاته ليس كذوات المخلوقين، وصفاته ليست كصفات المخلوقين، وأفعاله ليست كأفعال المخلوقين. والدليل عليها من القرآن العظيم قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، ومن صريح العقل: أنه سبحانه لو ماثل شيئًا من المخلوقات لكان حادثًا مثلها، وهذا مستحيل عليه سبحانه. فإن الله تعالى واجب الوجود. ومعنى أن الله تعالى واجب الوجود، أي أنه سبحانه وتعالى قديم فلا يسبقه عدم، وباقي فلا يلحقه عدم. ومخالفته للحوادث من لوازم وجوب وجوده سبحانه وتعالى.
وتفصيل هذا الكلام يطلب من موضع آخر، ولكن الشاهد مما ذُكر أن الله تعالى يستحيل عليه أن يماثل شيئًا من مخلوقاته. فإذا قلنا: الله سبحانه وتعالى له صفة الإرادة، لا يمكن أن تكون إرادته سبحانه وتعالى كإرادة المخلوقين، فيستحيل أن تكون إرادته عبارة عن دافع نفسي، أو تسبقها أغراض ومصالح.
ولذلك قال علماء أهل السنة: أفعال الله عز وجل لا يُسأل عنها بـ«لِمَ»، واستدلوا على على هذا الأمر بأدلة، منها قول الله تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].
فالله تعالى لا يُسْأل عما يفعل، لا لأن له أغراض ودوافع غير معلومة ولا يمكن أن تعلم، بل لأن أفعاله تعالى غير معللة بغرض أو دافع أصلًا، فلا يصح أن يُسأل عنها بـ«لِمَ». فأنت إذا سألت إنسانًا عن قرار من قرارته: «يا فلان، لِمَ اتخذت القرار الفلاني؟» تنتظر منه في الجواب أن يحكي لك عن الدوافع والأغراض، أو الأهداف والمصالح التي دفعته إلى اتخاذ القرار. أما أفعال الله عز وجل فليست كأفعال المخلوقين.
يظهر لنا الآن سؤال، وهو: ألم يخلقنا الله سبحانه وتعالى لعبادته كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]؟ فهو إذن أخبرنا أن الغرض من خلقنا هو عبادته.
نقول: التعليل في الآية الكريمة مجازي، فإن معرفة الله عز وجل – وهو معنى العبادة في الآية كما فسره سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما – هي الحكمة من خلق البشر، وثمة فرق بين الحكمة والغرض، فالغرض دافع، والله سبحانه وتعالى منزَّه عن الدوافع والأغراض، أما الحكمة فهي مصلحة وفائدة، ونفع يعود على الخلق، وهو ثمرة فعله سبحانه. وقد أشار الله تعالى لذلك حيث نفى أن يعود عليه شيء من خلقه للعباد فقال في الآية التي تليها: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: 57]. فإذن المصلحة والمنفعة التي تعود على الإنسان من خلق الله عز وجل له هو معرفة الله تعالى. وكذلك سائر أفعال الله تعالى، ومنها الأوامر والنواهي. فإن الله تعالى كلفنا بتكاليف، لا لأن امتثالنا لها يعود عليه بشيء، ولكنها تشتمل على فوائد ومنافع ومصالح تعود علينا نحن البشر.
والتصور بأن الله تعالى خلق العباد لحاجة في نفسه، يجعل البعض يسأل: أليس من السادية أن يخلق الخلق ويطالبهم بعبادته؟ ويظهر لنا الآن أن هذا السؤال ونحوه ينطوي على تصور مسلَّم لدى السائل، وهو أن أفعال الإله كأفعال المخلوقين، معللة بالأغراض والدوافع. ثم إنه يشتمل على تصور آخر مسلَّم أيضًا، وهو أن الأسوياء من البشر يتنزَّهون عن السادية، فكيف لا يتنزه عنها الإله؟! فتأمل، كيف انبنى هذا السؤال أولًا على أنسنة الإله، وهو التصور أن الإله كالإنسان، وأفعاله كأفعاله، ثم انبنى ثانية على تأليه الإنسان، وهو أن الإنسان هو المعيار الذي يوزن به كل شيء، ولو الإله نفسه!
فإذا اتضح لنا هذا التركيب البنائي للأسئلة الوجودية التي تشغل الأذهان، واتضحت لنا المفاهيم والتصورات المسلمة في الأسئلة، علمنا وأيقنا أنه كما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فكذلك السؤال عنه فرع عن تصوره.