هل في القرآن كلام غير عربيّ؟
سامي الأزهري: معيد بكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف
اللغة من حيث هي لغة -أعني بصرف النظر عن كونها عربية أو أجنبية- ظاهرة اجتماعية، غايتها الأولى هي التعبير عن المعاني التي يجدها المرء في نفسه ويريد إيصالَها لغيره، فهي -كما يقول ابن جني- أصواتٌ يُعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم، ولو صحَّ أن تتأدَّى تلك الأغراض كلُّها بغير الألفاظ لَمَا كانت لها حاجة، فما الألفاظ إلا وسيلة لحصول المعاني في نفوس الغير.
واللغة شأنُها شأن الظواهر الاجتماعية الأخرى التي لا توجَد مكتملة ناضجة في محيطها دون أن تكون قد رفَدَها غيرها مما يعمل عملَه في نضجها وكمالها، فلغةُ كلِّ قوم لا تختلف عن ثقافتهم وإرثِهم الحضاري، وليس بإمكانِ أمةٍ من الأمم أن تزعُمَ أن ثقافتها الحضارية والعلمية نشأت كاملة مكتملة ووُلِدَت ناضجة مستوية، وإن سَلَّمْنا على سبيل التنزُّل والفرض بوجود شيء كهذا فلا تظنَّ أن هذه منقبة ينبغي أن تشمخَ بها وتعتزَّ، بل ذلك دليل على الجمود والانعزالية والتقوقع، وأين هذا من المرونة والتلاقي والتلاقُح وما يتمخَّض عنه من انفتاحٍ في الفكر واستفادة من علوم الغير وتجاربِه ومعارفهِ، وأي الثقافتين أحق بوصفِ التميز، ثقافة منعزلة مكتفية بنفسها لا تفيد ولا تستفيد ولا ترفُد ولا تسترفِد، أم ثقافة تتلاقح وتعطي لغيرها وتأخذ منه؟! وأيهما أليق بنعتِ التجدد والإثمار وأحرى بالبقاء؟!. وما زِلنا نرى ازدراء الناس بالرِّيفي الذي لم يَبرح قريته ولم يسمع بالحضارة ولم ير التقدم، وما أشبهَ الثقافة المنعزلة إلا بهذا الريفي!.
بل إني لا أبالغ إذا قلتُ: إن تلك الثقافة -التي يزعمونها مكتملة ولا تحتاج إلى غيرها – هي أحرى بوصف الجُبن؛ لأن الثقافة الواثق أصحابها بها لا يَضِيرهم أن يَخلِطُوها بغيرها ويُضيفوا إليها من تجارب الأمم ما يَبعثُ جدَّتها ويُذكِي نشاطَها، بشرط أن يكون امتزاجها بغيرها يضمن لها صفة الأصالة، ولا يَغمِس بها إلى حد الذَّوب في غيرها، وإلا فَقدتِ اللغة شخصيتها، والغرضُ أن يكون مقصورًا على قدر الحاجة وداعي الضرورة.
والعربية كانت بتلك المنزلة المحمودة، فإن الإنسان العربي – قبل الإسلام وبعده – ساحَ في الأمم المجاورة، وكَثُرَت أسفارهُ ورحلاته إلى خارج الجزيرة العربية، والتقَى بأبناء فارس والروم، وحصَل بينهم من ألوان التبادل الثقافي مثلُ ما حصَل من أصناف التبادل التجاري، فكما باع لهم واشترى منهم باعوا له واشتروا منه، ودخل لغتَه من ألفاظهم مثلُ ما دخل لغتَهم من لغتِه، ولو أنك فَحَصتَ اللغةَ الفارسية -على سبيل المثال- لوجدتَّ فيها كثرةً عظيمة من مفردات العربية التي استفادَتْها الفارسية منها عن طريق الالتقاء بالعرب والتعامل معهم والاختلاط بهم، ومثل هذا صار في العربية، فقد دخلَها من ألفاظ الفارسية والرومية مثلُ ما دخلهما منها، فهي ليست أقل منهما مرونة وقدرة على التلوُّن والاستفادة من الغير، ومثل هذا صائر في معظم لغات العالم، فالإنجليزية مثلًا -وهي اللغة الأولى الآن على مستوى العالم- ليست كل ألفاظها ومفرداتها إنجليزية محضة، ولو أنك تأمَّلتَ في جذور بعض ألفاظها لعلِمتَ أنها ترتدُّ إلى أصل عربي، انظر مثلا إلى كلمة Gazelle؛ فإنها تقترب جدًّا في نطقها من اللفظ العربي: “غزال” والمعنى هو هو، وكذلك كلمة Cotton؛ فإنها تعني ما يعنيه اللفظ العربي: “قطن ” والنطق قريب جدًّا كما ترى، وكذلك cave؛ فإن لفظها ومعناها هو “كهف” العربي، ومن الظلم أن يقال: لماذا لا يكون اللفظ الإنجليزي أصلا للعربي؟! فإن العربية أقدم وأعرق من الإنجليزية بقرون، ومثل هذا لا ينبغي أن يكون محلًّا للريب.
وكذلك الأسبانية -وهي من أشهر لغات العالم- لو ذهبتَ تنظر في بعض كلماتها لوجدتَّ أن كثيرا منها عربي، وكيف لا وقد كانت هناك حضارة المسلمين في الأندلس أكثر من ثمانية قرون امتزجَتْ فيها معارفهم وثقافتهم بمعارف وثقافة أهل البلد الأصليين، ولا شك أن كلًّا منهما استفاد من الاخر، على المستوى الثقافي، وعلى المستوى اللغوي، ولا أحسب أن أحدًا ينكر هذا.
غير أن العربي كان ذكيًّا يَقِظًا، فهو حين تَدخُل لغتَه بعضُ هذه المفردات لا يُبقِيها على حالها الأعجمي، وإنما يتصرَّف فيها، فَيُبدِل بعضَ حروفها حروفًا عربية، ويقلب حرفًا منها أو حروفًا إلى حرف من لغته العربية، وكأن هذا فيه تنبيه على طبيعته الثائرة التي تأبَى أن يَقتحِمه شيء دون أن يُلين قِيادَه ويَكبح جماحَه، وإن أبقَى بعضَها على حاله الأعجمي فذلك قليل غير كثير.
إذن، العربي دخلَت لغتَه ألفاظٌ أعجمية كما دخلَتْ لغاتِ العجم ألفاظٌ عربية، والقرآن الكريم حين نزل إنما نزلَ بلغة العرب وخاطبَهم بما يفهمونه وبما اصطلَحوا عليه، وهذه الألفاظ التي ليست من أصل لغتهم وجَد القرآن الكريم أنهم يستعملونها وأنهم الذين أدخلوها لغتَهم؛ فجرَى في خطابهم على ما تعارَفوا عليه وفهموه منها، ولعلَّ في هذا الكلام جَمعًا بين قولين متقابلين، أحدهما يقول : لا وجود لألفاظٍ غير عربية في القرآن، والآخر يقول: بل ذلك موجود ويمثِّل له بنحو: غِسلين، وسِجِّيل، وإستبرَق، ووجه الجمع أن الأصل الذي ترتدُّ إليه هذه الألفاظ غير عربي، ولكنها لمَّا جرَت على لسان العرب واستُعمِلَت في كلامه صارت عربية، وليس هذا بِدعًا من التصرف في اللغات -كما أسلفنا- فمثله في الفارسية والإنجليزية والأسبانية وغيرها، وليس هذا من العيب ولا من النقص في شيء.
إذا فَرغنا من هذا فيجدُر القول بأنَّ بعض الناس يَغيب عنهم أمر مهم، وهو أنه لا يَلزم مِن كون كل ألفاظ القرآن عربية أن يكون معنى كل لفظ منها معلومًا لكل مخاطَبٍ في الزمان الأول، ولهذا يَستغرِبون من غياب بعض معاني الألفاظ على بعض الصحابة كسيدنا عمر، وابن عباس، وغيرهما، وإزالةُ هذا الوهم يكون في ثلاث نقاط -على غاية الاختصار -:
الأولى: أنَّ لغة العرب واسعة لا يُحيط بها كلها إلا نبي -كما قال الإمام الشافعي- غير أنها لا تذهب كلُّها عن كل العرب، ومِثل ذلك الأحاديث النبوية الشريفة، لا يوجد رجل يحويها كلها، ومع ذلك لا يغيب معظمها عن مجموع العلماء، فتلك اللفظة الخافية على هذا الصحابي أو ذاك يجوز أن تكون من قبيل الحديث الفرد الذي يغيب عن الإمام المجتهد الجامع لعلوم السنة والحديث.
الثانية: أنه يجوز أن يكون هذا اللفظ قد تُنُوسِيَ من استعمال العرب وهجَروه وتركوه ثم أحياه القرآن وأجرى فيه ماء الاستعمال؛ فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتُنسَى في البعض الآخر.
ومن الأمثلة على ذلك كلمة “السِّكِّين” عند الأوس والخزرج، قال أنس بن مالك: “ما كنا نقول إلا المُدْيَة، حتى سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَذكر أن سليمان عليه السلام قال : ائتوني بِسِكِّين أَقسِم الطفل بينهما نِصفين”، فما لم يعلمه الصحابي يجوز أيضًا أن يكون من هذا القبيل.
الثالثة: أو لأن الكلمة من قبيل المشترك اللفظي، وهو الكلمة الواحدة التي لها معان كثيرة، كلفظ” العَين ” فإنه قد يكون بمعنى الجارحة، أو بمعنى الجاسوس، أو بمعنى عين البئر .. إلخ فكان إمساك الصحابي عن بيان هذا اللفظ أو ذاك لعدمِ جزمه بمراد الله منه على وجه التعيين، وهل هذا دليل إلا على مزيد خشوعه وتقواه وعدم جرأته على كتاب الله!.
هذا فيما يخص مفردات القرآن الكريم، وأما تراكيبه فإنك لا تجد في القرآن الكريم تركيبًا غير عربي، وهذا محل اتفاق بين الناس، فلا توجد فيه جملة غير عربية أو كلام غير عربي، والقرآن كثيرًا ما يُنبِّه إلى هذا بقوله: “إنا أنزلناه قرآنًا عربيًّا” وقوله: “بلسان عربي مبين” وقوله: “قرآنًا عربيًّا غير ذي عِوَج” ولهذا فائدة مهمة، وهي تنبيه أسماعِ العرب وإيقاظ أفهامهم ولَفتُ أنظارهم إلى أن هذا القرآن الذي عَجزتُم عن الإتيان بمثله ولا بسورة منه هو كلام عربي من جنس الكلام الذي تستعملونه وتتفاهمون به وتتخاطبون، فما عَجزُكم عن الإتيان بمثله مع تسليمكم بأنه عربي وعدم إنكاركم أنه غير مفهوم لكم؟!
وفي هذا من إقامة الحجة عليهم وبيان عنادهم وكِبرهم ما لا يخفى؛ لأن هذا القرآن لو كان نَزل بغير اللغة التي يَعرفون لأمكَنهم القول بأن هذا كلام لا نَفهمه، أفلا خاطَبتنا بما نفهم حتى نَصدع لك!! فكثيرًا ما يُذكِّرهم بأنه عربي ليكون هذا مزيدًا في إفحامهم وإظهارِ عنادهم وانعدامِ وسائل إنكارهم.