كتبه الدكتور هاني حسين
كالعادة لا تكف بعض الصفحات المعادية للدين والتي تدعي العلمية والحيادية عن اجترار وتكرار مقولات ودعاوى سبق طرحها من غيرهم ولم يكن لهم جهد في إيرادها سوى النقل عن غيرهم دون تنبيه أو عزو، وسبق الرد عليها كذلك بما يغني عن الإعادة، لكن يبدو أن التكرار محتم مع من لا يحسن غير القص واللصق.
هذه الدعوى السخيفة تقوم على مغالطة تاريخية مفادها أن تقدم المسملين في العلوم الطبيعية والفلسفية والرياضية توقف في لحظة سحرية واحدة من مجرى الزمن فجأة بلا مقدمات ولا عوامل أخرى مؤثرة أو حتى مساعدة!
توقفت مسيرة العلوم فجأة بسبب كلمات قليلة بثها الإمام الغزالي قدس الله سره في بعض مؤلفاته، فانصاع لها فأة كل العالم الإسلامي – وفق زعمهم بالطبع – وتوقفت مسيرة العلوم العظيمة قبلها!
هذا الزعم والادعاء من السخف والتهافت بحيث يغني مجرد تصوره عن تجشم الرد عليه في الحقيقة، فإنه لا يتصور أن يكون لرجل واحد مهما أوتي من قوة العقل والبيان أو حتى السلطان والشكيمة والشوكة أن يكون له هذا التأثير الذي لم يجعله قدماء اليونان حتى لآلهتهم التي عبدوها!
نمط التفكير الذي ينتج مثل هذه الدعاوى لا يمكن وصفه إلا باللاعقلاني.
فإن أضفنا إلى ذلك حقيقة أن الإمام الغزالي لم يكن محل اجماع كل المسلمين في عصره بل كان محل سخط وشك وتجنب وكراهية قسم كبير منهم وصل ببعضهم الأمر إلى منع كتبه والمعاقبة على قراءتها والاطلاع عليها بل والأمر بحرقها، فإن جدية هذه الدعوى وعقل صاحبها يصير محل نظر.
فإن أضفنا إلى ذلك أن سخط الساخطين على الإمام الغزالي كان في بعضه لدرسه الفلسفة – علوم الاوائل – وتأليفه فيها وفي المنطق كتبًا عدة فإن هذه الدعوى تصير محض قبض ريح وحديث خرافة.
وإن تنزلنا وقبلنا مناقشة هذه الدعوى وعدنا إلى كتب الغزالي المشار إليها فإنا سنجد الأمر بخلاف ما زعموا، ما يشي بسوء فهم، وربما سوء قصد.
إن الناظر في كلام الإمام الغزالي في الكتاب المشار إليه “المنقذ من الضلال” – في الصورة المرفقة – سيجد عكس مدعى هؤلاء القوم:
- فقد وصف الإمام العلوم الرياضية بأنها برهانية – أي بلغت القمة في افادة اليقين والصحة!
- أن الإشكال ليس في ذات الرياضيات التي هي علم صحيح وإنما في قصر نظر وضعف عقل بعض الدارسين لها أو المطلعين عليها.
- أن بعض من يدرسها يتعجب من ظهور براهينها فيقوده ذلك إلى اعتقاد أن أصحاب هذه العلوم – أي الفلاسفة – لا يمكن أن يصدر عنهم خطأ في أي أمر تكلموا فيه بما يشمل العقائد والإلهيات، فيظنن استدلالاتهم في الإلهيات من جنس براهينهم الرياضية والهندسية قوة وصحة فيلسلم له دون تمحيص أو نظر احسانا للظن واتباعا للاعتقاد دون أن ينتبه أن البراعة في مجال ما لا تعني بالضرورة البراعة في كل مجال.
- أنه يجب لأجل الإشكال السابق «زجر كل من يخوض في تلك العلوم» صونا لدينه عن الاختلال لأجل هذه العلة أي انبهار الجاهل الناقض القريحة المؤدي به إلى اختلال العقيدة، فهذا الزجر والمنع يقرأ في سياقه ويفهم منه منع غير المتأهل غير مكتمل القريحة غير المحصن عن الخوض في هذه العلوم لا لأن هذه العلوم من «عمل الشيطان» كما يقول أصحاب هذه الدعاوى، فالمنع لا للذات وإنما لأجل الغير، ومتى ما زالت هذه العلة وأمنت ارتفع المنع.
- ثم أن الغزالي عاد بعد هذه النقطة مباشرة ومدح هذه العلوم وما تنتجه من نتائج عليمة صحيحة وقال أن من ينكر كل هذه العلوم دفعة عظيم الجناية على الإسلام، وأنكر على من انكر علمي الحساب والهيئة، فيفهم من هذا بقراءته مع ما سبق أن المنع لمن يخشى عليه التأثر من غير المتأهلين أو فاقدي الكفاءة العقلية لا على الإطلاق، وقطعا لم يسم الرياضيات بـ«عمل الشيطان».
- ثم تكلم في علوم الفلاسفة المنطقية وامتدحها وقوتها وبين أن الكلام فيها كالكلام في الرياضيات من حيث ضلال بعض الناس بسببها ما يعني أن المنع الوارد في كلامه منجنس المنع الوارد في تعلم المنطق، وقد علمنا من سيرة الغزالي وكتبه أنه واحد من أعظم مناطقة المسلمين وألف في المنطق عدة كتب شاهدة بذلك، فهل يؤلف في علم يرى حرمته ومنع، فمثله كذلك يقال في علم الرياضيات.
والخلاصة أن هذه الدعوى محض خيال وأوهام.
بقي أمران:
الأول: أن خلطهم تكفير الغزالي لابن سينا والفارابي بكلامه عن الرياضيات والمنطق والفلسفة – مطلقا – خلط غير بريء وغير حميد، وهو يكشف عن سوء نية مبيتة ولا علمية في التناول والبحث خلاف مدعى أصحاب الصفحة، ذلك أن كل من يراجع كتب الغزالي يعرف أنه ما كفر ابن سينا والفارابي وغيرهما من فلاسفة المسلمين لأجل كلامهم في الفلسفة مطلقًا، وإنما لأجل كلامهم في قسم واحد من أقسامها وهو الإلهيات فقط!
كفرهم لأجل تبنيهم – وفق نظره وبحثه – عقائد تخالف القطعي من عقائد الدين، وتحديدا لأجل قولهم (1) بقدم العالم، و(2) إنكار علم الله بالكليات، و(3) نفي حشر الأجساد.
وقد صرح الغزالي «المنقد من الضلال» وفي «تهافت الفلاسفة» أنه لا يكفرهم إلا لقولهم بهذه الأقوال التي تصادم وتخالف بديهيات الدين وضروراته وتكذب صريح القرآن.
يعني لا فلسفة ولا حساب ولا هندسة ولا فلك ولا فيزياء ولا كيمياء، لم يكفرهم لخوضهم في علوم إنسانية أو فلسفية أو طبيعي وإنما كفرهم لآراء اعتقادية دينية اعتقدوها خلافا لما يزعمه هؤلاء، فما علاقة هذا بالكلام عن العلوم لدى المسلمين وسبب تأخرها، وهل يريد أصحاب هذه الدعاوى والصفحات أن يبقى في الإسلام من لا تتفق عقائده وقواعده؟!
الثاني: أن ما قالوه هنا مأخوذ بالنص من محاضرة قديمة لعالم الفلك الأميركي اللاأدري/الملحد المعروف نيل ديغراسي تايسون، أخذوها منه ولم يكلفوا أنفسهم بالعزو إليه أو الاشارة أنهم استفادوها منه وهذه كبيرة في البحث العلمي لو كانوا يعلمون، وقد نوقشت هذه المزاعم ورد عليها أكثر من مرة.
الجزء من محاضرة نيل ديغراسي الذي يتناول فيه انهيار العلوم الاسلامية بسبب آراء الغزالي (ابتداء من الدقيقة 2:20):
محاضرة البروفيسور جورج صليبا التي رد فيها على مزاعم نيل ديغراسي بشأن الغزالي وهي محاضرة مهمة أنصح بسماعها كاملة: