كتبه: الدكتور هاني حسين
يحكي المثل الهندي القديم – الذي صِيغَ قطعةً شعرية إنجليزية للشاعر الإنجليزي جون غودفري في المقطع المرفق والذي صاغه مولانا الرومي شعرا كذلك في المثنوي في قصيدة “الفيل في الظلمة” – أن ستة عميان تعرفوا على الفيل لأول مرة في حياتهم بتحسس كل منهم جزء معينا محصورا من جسمه، فتكونت لدى كل منهم صورة ذهنية تحاكي ما تحسسه من جسد الفيل وتقربه إلى فهمه، وبالتالي ارتسمت في ذهن كل منهم صورة للفيل في الواقع تختلف عن تلك القائمة بذهن الآخرين، وصار بالتالي لكل منهم تصور للواقع يختلف عن تصور زملائه، فإن أراد كل منهم وصف الواقع (الفيل) فإنه يصفه صادقا بما أحس به لكنه لم يدرك الحقيقة والواقع كما هو ولم يلح في وصفه صادقا رغم صدقه في نفسه في وصف ما علم منه بسبب محدودية تجربته ورؤيته.
صار هذا المثل من التمثيلات المفضلة لدى أنصار الفلسفة النسبوية Relativism التي تفترض – بتبسيط واختصار – تساوي جميع القيم والأفكار في الحقية والقبول، لا يوجد موقف أو رأي أو اعتقاد يمثل الحقيقة المطلقة فالحق ليس مطلقا بل الحقيقة نسبية متغيرة بتغير النظر والظرف، لا أحد يعلم الحقيقة ولا أحد يمكنه بلوغها أو ادعاء حيازتها لكون ما يعتبره كل منا حقيقة نتاج اعتقادات مسبقة وأطر تفكير ملقنة لا تتجاوز سلطتها الظرف الذي وجدت فيه، وهي فلسفة تقف على النقيض من الواقعية Realism التي تعتبر الحق واحدا وهي صورة مطورة ومحدثة للسفسطة العندية القديمة التي ناقشها المتكلمون قديما كما في متن النسفية وشرحه: “حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق خلافا للسوفسطائية (العندية والعنادية واللاأدرية).”
تتنوع تطبيقات هذه الفلسفة وتتعدد لتشمل الأخلاق والإبستمولوجي والعلم والاعتقادات الدينية والسياسة وحتى المنطق.
بطبيعة الحال واجهت هذه الفلسفة الكثير من النقد والاعتراض قديما وحديثا، ومن الشطط – في اعتقادي – رفض النسبية كلية لأن النسبية موجودة بدرجات متفاوتة في كثير من أمور الحياة خاصة العملية منها وما يتعلق بالأحكام والقوانين، ففي الفقه مثلا نتقبل الخلاف حول حكم فعل ما ولا ينكر بعضنا على بعض في مسائل الخلاف التي ربما تصل إلى ابطال عبادة ما أو نسبة فعل إلى الحرمة والإثم عند مذهب بينما هو من الحلال الجائز عند مذهب آخر، في هذا الحيز وإلى هذا الحد يمكن القبول ببعض النسبية، لكن النسبية تصبح مرفوضة تماما – بالنسبة لنا- في مجالات الأخلاق والعلم والعقيدة.
الإشكال يأتي من تعميم فكرة النسبية لتشمل كل شيء وتدخل في كل شيء حتى العقائد والثوابت، ولعلنا جميعا قد سمعنا بدعوات حديثة هزيلة ضحلة يصفها أصحابها بالتجديدية والوسطية والتنويرية لقبول كل اعتقاد وعدم اطلاق وصف الكفر والهلاك على أي اعتقاد وقبول كل تخرص في فهم النصوص بدعوى حرية الفكر والاعتقاد، فالكل (سواء كان مسلما أو يهوديا أو نصرانيا أو بوذيا أو حتى ملحدا) ناجٍ ما دام يبتغي الحق ويبحث عنه ولو لم يصبه ولو عبد الحجر والبشر.
في مثال الفيل: يفوت المروجون للنسبية باستخدامه أن الفيل موجود بالفعل، صحيح أن لكل أعمى اطلاعا محدودا على الواقع/الحقيقة لكن ذلك لا يعني أن الواقع/الحقيقة لا وجود له، الحقيقة ليست نسبية بل هي موجودة هناك في الخارج لتكتشف وتعرف كما هي، ولا تعني محدودية اطلاعنا على الحقيقة (الدينية ههنا) أن كل نسخة منها على قدم المساواة والقبول مع بقية النسخ الأخرى، لا يمكن في العقائد إلا ان تكون الحقيقة واحدة متفردة لا ثاني لها، ووجود الفيل الحقيقي في الخارج ينبغي أن يكون دافعا لنا لطلب مزيد معرفة به لنعرفه كما هو في الواقع عوض الاكتفاء بتصحيح النسخ الشائهة أو الناقصة عنه وقبولها.
على أن الفيل محسوس في المثل، والحس هو الوسيلة التي اتبعها العميان لتحقيق المعرفة به، وربما تكون النسبية مقبولة إلى درجة ما في تفسير المحسوس لا في إدراكها كما هو، لكن النسبية لا محل لها في المعارف العقلية المحضة، فالشيء إما ثابت أو منفي ولا يمكن أن يكون ثابتا ومنفيا في آن، والمعارف الاعتقادية الإلهية معارف عقلية لا يمكن بلوغها بالتجربة والملاحظة الحسيين العاديين، لا يمكن بلوغها إلا بالعقل أو بالوحي بعد اثبات العقل، ومثل هذه المعارف لا يمكن أن يكون المصيب فيها أو الحق فيها متعددًا.