لنعد معا إلى الوراء في الزمن، قبل نزول الإسلام اعتاد العرب الزواج بأكثر من أربع نساء، بل ربما أكثر من عشر نساء، فتروي لنا السنة النبوية أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر زوجات، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): “اختر منهن أربعًا”، وكذلك جاء عن صحابي آخر ولم يكن هذا أمرا نادرا، أو خاصا بغيلان الثقفي فقط.
فحين نزل الإسلام لم يبتدع تشريع التعدد، وإنما على العكس، حَدّ من عدد الزوجات الذي يمكن للرجل الواحد أن يبقيه على ذمته، ولما كانت العرب -وغيرهم من الأمم- يبيحون التعدد بلا حد، جعل الشرع الزواج يتم في صورٍ لها ضوابط معيّنة تحقق المصلحة الدنيوية والشرعية منه، وتمنع من آثاره السيئة على المرأة والأولاد.
والشريعة دائما تضع في اعتبارها جلب المصالح ودفع المفاسد العامة المتعلقة بالعلاقات الإنسانية، فسلم الأولويات في رعاية المصالح والابتعاد عن المفاسد يجعل تعدد الزوجات أولى من منعه لعدم رغبة الزوج في مفارقة زوجته الأولى من جهة في حالات معينة، أو عدم رغبتها هي في مفارقته حتى لو تزوج بأخرى، أو لاحتمالية انجراف الرجل والمرأة الثانية إلى الوقوع في فاحشة الزنا في حالات أخرى، فكان تشريع التعدد صيانة لبعض الأسر من الفرقة أو لبعض الرجال والنساء من الوقوع في الحرام، فيجعل الشرع العلاقة الأخرى منضبطة بقيود الزواج ويتحمل الرجل عندها كل المسؤوليات من مهر ونفقة وسكنى ويضبط الشرعُ الزوجَ بقانون العدالة التامة بين جميع الزوجات.
ماذا لو أن هذا لا يوافق الزوجة الأولى؟
تُبنى علاقة الزواج على التراضي بشروط العقد عند إنشائه، وينشأ عنه إقرار المرأة ضمنيا برضاها بحق الزوج في الزواج بأخرى متى شاء، وإذا كرهت المرأة ذلك فالشرع هنا جعل لها خيارين، الأول أن تطلب الفرقة بأشكالها المختلفة كالطلاق أو الخلع لا سيما وأن بعض المذاهب الفقهية تعطي المرأة الحق في أن تشترط وقت زواجها ألا يتزوج عليها، فإذا تم الزواج، ولم يلتزم الزوج فيما بعد بهذا الشرط كان للمرأة الحق في طلب الطلاق، وكثير من الدول الإسلامية أخذت بهذا الرأي في قوانينها للأحوال الشخصية.
والخيار الثاني: أن تبقى مع زوجها تغليبا لمصلحة تراها، أو محبة له وعدم رغبة في فراقه، أو بالنظر لمصلحة الأولاد.. إلخ.
هل التعدد تنظيم حياتي يختص به المسلمون دون غيرهم؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أولا التفريق بين تشريع تعدد الزوجات الذي يقره الإسلام وينظمه بضوابط معينة، وبين مفهوم تعدد العلاقات الذي تقره كثير من المجتمعات الغربية والأسيوية، فوفقًا لمقالة علم النفس لعام 2014، يُقدر عدد المشاركين في علاقات متعددة الأطراف في الولايات المتحدة برقم يصل إلى 9.8 مليون[1].
وفي الهند نجد أن نسبة المسلمين المعددين (5.7 ٪) وهي أقل من الهندوس (5.8 ٪)، والجاينية (6.9 ٪)، والبوذيين (7.9 ٪)، والأديفاسيس (15.25٪[2].
وفي كثير من الدول المسيحية نجد تعدد الزوجات يُعترف به قانونًا ويُمارَس على نطاق واسع، يشمل ذلك أوغندا (15.8٪)، جمهورية الكونغو (31.9٪)، جمهورية أفريقيا الوسطى (13.3٪)، وزامبيا (16 ٪[3].
ماذا تعني هذه النسب؟
تعني ببساطة أن التعدد في العلاقات على اختلاف النظم التشريعية أمر لم يوجده الإسلام ابتداء سواء في الماضي أو الحاضر، وليس حكرا على الدول المسلمة، في الواقع التشريع الإسلامي الذي ينص بوضوح على ضرورة العدل بين الزوجات في القسم والنفقة ورعاية الأولاد يحد بذلك من الممارسات الظالمة والأنانية وغير المتحضرة أو الاعتياد على ممارسة الجنس خارج إطار الزواج وهي الممارسات التي ينزع الأفراد لها في حال غياب مرجعية كبرى توضح واجباتهم قبل حقوقهم.
ولو نحينا النظر الشرعي لقضية التعدد قليلا وفكرنا في العلاقات الزوجية حال ميل الرجل لامرأة أخرى غير زوجته الأولى لوجدنا أن الأمر لا يخلو عن واحد من ثلاث صور:
1-ألا ترغب زوجته في البقاء معه، فتعطي لها الشريعة حق الفراق بصوره المختلفة.
2-أن ترغب زوجته في البقاء معه وتنكر عليه ميله للمرأة الأخرى وترفض وجود علاقة من أي نوع بينهما، فما الذي يعطيها هذا الحق الأناني في تملك زوجها؟
3-أن ترغب زوجته في البقاء معه مع موافقتها على علاقته بأخرى (لأسباب شتى)، فكيف يحدث هذا من غير تنظيم يبيح لها وله وللمرأة الأخرى حق العلاقة العلنية الحافظة لحقوق جميع أطرفها بغير التعدد؟
والسؤال الذي ينبغي طرحه الآن أليست الزوجات (الثانية والثالثة والرابعة) من جنس النساء هن الأخر ولهن حقوق كما الأولى، فكيف يُعد الإسلام ظالما للمرأة في هذه الحالة عندما يأتي بتشريع يضمن لهن حقوقهن ضمن علاقة شرعية علنية محترمة؟ أم أن السؤال الصائب هو هل يظلم الإسلام الزوجة الأولى لحساب الثانية والثالثة والرابعة؟
وما الذي يميز الزوجة الأولى عن الأخريات ويعطيها حقا في التملك الحصري؟ أهو مجرد الترتيب الزمني؟ أم أفكار المجتمع؟
ربما نكره التعدد لسوء تطبيقه، نتفق جميعا على كراهية الظلم، فماذا لو ظلم الزوج زوجته الأولى بالزواج مجددا ولم يعدل؟
علاقة الزواج شأنها شأن كل العلاقات الإنسانية الأخرى، قد يجور أحد طرفيها على الآخر، فيتجاوز ويسرف في استخدام حقه، فقد يظلم الرجل زوجته، وقد تظلم المرأة زوجها، فكلاهما عضو فاعل مسؤول في مؤسسة الزواج، لذا تأتي الشريعة بالنهي عن ظلم الزوج لزوجته في أحاديث نبوية وآيات قرآنية عديدة وتنص على واجباته، كما تأتي بعض النصوص الأخرى لتوضح للمرأة واجباتها، فتحرص الشريعة على بيان الحقوق والواجبات للطرفين حتى إذا اختلفا وغابت عنهما المودة والمحبة احتكما لها، وتوقفا عندها، فنحن كائنات أنانية إلى حد كبير، فليس الحل في تحريم ما أحله الله، بل في ضبط سلوكياتنا ونوازعنا الأنانية وتحمل مسؤوليات علاقاتنا المختلفة بنضج، فلا الرجل فاعل وحده أو مفعول به من قبل امرأة أخرى، ولا المرأة مغلوبة على أمرها مضطهدة في جميع الحالات، هذا النوع من التنميط والقولبة هو ما يسبب لنا التعاسة في كثير من الأحيان، كل علاقة لها تفاصيلها الخاصة، والإطار العام الشرعي الذي نحتكم له أباح مظلة التعدد الواسعة ولم يفرضها، فهو خيار يعكس فهما دقيقا للنفس البشرية.
ولا ننازع بالتأكيد في أن التعدد ينافي فطرة المرأة ورغبتها في التفرد، لكن النظر لأوامر الشريعة لا يتعلق بأثرها على الفرد فقط، بل على المجتمع، فمن تمر بتجربة التعدد هي مبتلاة في شيء لا تحبه، كما يُبتلى الرجل بالجهاد، وليس كل الرجال تواقون لخوض الحروب، لكنه تشريع عام يحفظ المجتمع، كذلك تشريع التعدد تشريع يحفظ الجماعة، وإن كان ابتلاء تُؤجر صاحبته عند صبرها.
ثم هناك سؤال أخير شائع قد نفرد له مقالة قادمة، وهو أنه إذا شُرع التعدد للرجل لظروف ومصالح معتبرة، فلماذا لم يشرع أيضا التعدد للمرأة؟!
ولعل هذا السؤال يكون عنوان مقالنا القادم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] https://www.psychologytoday.com/us/blog/the-polyamorists-next-door/201405/how-many-polyamorists-are-there-in-the-us
[2] https://www.theatlantic.com/health/archive/2014/07/multiple-lovers-no-jealousy/374697/
[3] http://piketty.pse.ens.fr/files/Tertilt2003.pdf