نعمة الإيمان

.

كتبه: أحمد فتح الباب

يعلم من يعرفني عن قرب أني مؤمن بالله عن اقتناع، وقد ناقشت عشرات الناس من مختلف الأجناس والمذاهب في قضايا الدين، وإثبات وجود الله بالعقل، وصدق النبي الخاتم صلوات الله عليه في النبوة، وفي ما تلقيه الحداثة والعلم التجريبي من ظلال على القضايا الدينية. لكنّ هذه المشاركة ليست في كل ذلك، وليست طرحا عقليا، ولكنها عزف على ناي الشكر، وبث لتباريح السعادة، وتأمل في فضائل هذه النعمة العظمى: نعمة الإيمان.

الناس لا يختارون بعقلانية، ولا يتأملون في الأدلة غالبا. بل هي انحيازات نفسية، والمنطق دوره في الغالب تعضيدها أو تبريرها. هذا هو الإنسان في كل أحواله. فالإيمان رزق، يرزقه الله من تأهلت نفسه لقبوله. كزرع لا يؤتي ثماره إلا في أرض معينة. يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأُكُل. فالحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى.

ممَّ يخاف المؤمن؟ البلاء يرفع درجته، والألم يطهّر باطنه، والنعمة رزق لا يستطيل به على غيره، والموت انتقال إلى دار السعادة، وفقد الأحبة إنما هو إلى ميعاد، والمرض مشاهدة لضعفه الإنساني، والظلم سيُقتَص منه على رؤوس الأشهاد عند الحكم العدل.

قال لي أحد الصالحين مرة: كل إيمان لا يورث محبة للخلق فلا يعول عليه. المؤمن حقا يعلم أن الخلق عيال الله، وأنهم مفتقرون إليه على حد سواء، وأنهم ضعفاء إليه، فيورثه ذلك شفقة بهم ومحبة لهم ورحمة. وهذه المحبة والرحمة هي قوام العلاقات الإنسانية، وسر السعادة فيها.

الإيمان علم يورث الراحة، الراحة بمعرفة المبدأ والمصير، والراحة بالركون إلى ملك الملوك سبحانه، والراحة بمعرفة ما يلزم عمله في هذه الحياة، وما قضاه الملك سبحانه في ملكه.

الإيمان طريق المرسلين، نفحة ربانية سرت في قلب آدم، وحُملت في السفينة مع نوح، واستعصم بها في النار إبراهيم، ووقف في سبيلها موسى وحده مواجها فرعون، ونطق بها عيسى المسيح في المهد بين يدي أمه مريم البتول، وفاض بها قلب محمد متعبدا في غار حراء، والمؤمن ينتسب لهؤلاء السادة، يمد أنوارهم على خط الزمان في كل صلاة يصليها، وزكاة يزكيها، وصوم يصومه، وحج يحجه. إلى أن يأتي في يوم جليل فيسمع: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ .. وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}

للمؤمن رب يخاطبه وإن أغمض عينيه، ويسمعه وإن تلعثم لسانه، ويراه وإن غيّبه سواد الليل، ويصحبه في سفره فيكون الصاحب في السفر، ويخلفه في أهله فيكون الخليفة في الأهل، وهو معكم أينما كنتم. فهي صحبة مقدسة ممتدة، نافية للوحشة، جالبة للأمان.

الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. والإيمان بداية الرحلة، يعقبه سلوك إلى الحق سبحانه، الذي يفتح للناس في كل لحظة بابا إليه، وقد نوّع لهم في الأعمال ليسهل عليهم موائمة أحوالهم، ويجازيهم بنيتهم، ويتجلى عليهم إن أقبلوا بمجازاته، وإن أعرضوا بمغفرته. فسبحانه ما أعظم شانه، والحمد لله على نعمة الإيمان، وكفى بها نعمة.

قم بتقييم المحتوي