لقد تقرر في الأذهان السليمة وفي عادة العقلاء أن الدعوى لا تنفك عن احتياجها إلى دليل يناسبها ويلائمها. فكل من زعم زعمًا في قضية فلسفية أو أبدى رأيًا في قضية علمية فقد أنزل نفسه منزلة المدعي الذي يلزمه الدليل والاستدلال، ويبقى قبول دعواه أو ردها رهن صحة دليله وسلامته من المعارضة. ومن القواعد المهمة التي لا ينتبه إليها بعض الناس في محاوراتهم ونقاشاتهم، بل ربما لا يتنبه إليها البعض فيما بينه وبين نفسه، هي لزوم الدليل في النفي مثل لزومه في الإثبات. فإن الرأي كما يكون عبارة عن إدعاء ثبوت شيء، كمن يدعي مثلًا إثبات وجود العوالم المتعددة، يكون أيضًا عبارة عن إدعاء نفي شيء، كمن يدعي مثلًا نفي وجود الإله أو نفي وجود الأرواح. وكما أنَّ مَن يدعي إثبات وجود «التطور» يلزمه أن يأتي بدليل يظهر صحة دعواه، كذلك من ينفي وجود الإله أو وجود الأرواح يلزمه أن يأتي بدليل يبين صحة دعواه. ففائدة هذه القاعدة أن الدليل يلزم المدعي سواء في الإثبات أو النفي، وأن المطالبة بالدليل ليست أمرًا خاصةً بالمثبت، وإنما تتعداه إلى النافي أيضًا. فالسؤال كما يتوجه على المثبت (مدعي الإثبات): على أي أساس ترتب الإثبات؟ فكذلك يتوجه السؤال على النافي: على أي أساس ترتب النفي؟ وحينئذ يلزم زاعم النفي أن يأتي بالدليل على زعمه.
ووجه أهمية هذه القاعدة أن البعض يتوهم أن النفي يتأتى بدون دليل، وأن المثبت فقط هو المطالب بالدليل ولا ينبغي أن يطالب النافي بدليل على نفيه. وهذا التوهم سببه الغفلة عن قانونٍ يسميه بعض أصدقائي: قانون الأُمَّهات! فالطفل أو الشاب يقول لأمه: أين قميصي؟! إنه لا يوجد في الدولاب! فتقول له: هل بحثت جيدًا؟! ماذا لو أتيت لك به؟! هذا الموقف الحياتي الذي لا يكاد تخلو منه أسرة يعتمد على قانون عظيم من قوانين التفكير وهو: عدم العلم ليس علمًا بالعدم. يعني أن الجهل بوجود شيء لا يساوي العلم بعدم بوجوده، كما أن مجرد عدم وجود الشاب لقميصه في الدولاب لا يساوي العلم بعدم وجوده بالفعل. فإنه إذا لم يجرِّد الدولاب وينظر في كل جهة من جهاته لا تصح منه دعوى النفي: «ماما! القميص غير موجود!».
وخطورة هذه القاعدة تظهر حينما لا يعمل بها في مجالات صعبة وموضوعات عويصة – لا تقارن أهميتها بنفي وجود القميص في الدولاب! – مثل: الفلسفة الطبيعية أو الفلسفة الإلهية أو العلوم التجريبية كالطب والفلك ونحو ذلك من العلوم الدقيقة. ففي هذه المجالات ينبغي على الباحث أن يستحضر نصيحة حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه: «ولا ينكر بمجرد الاستبعاد»، يعني أن الباحث لا ينبغي أن يكون نفيه لرأي ما أو إنكاره لزعم معين بمجرد الاستبعاد الشخصي العاري عن الحجة والدليل. ولهذا قال فخر الدين الرازي رحمه الله في «شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا» أن «الخطأ في إنكار ما لم يُعرف امتناعه بالبرهان ليس دون الخطأ في الاعتراف بما لم يعرف ثبوته بالبرهان». يعني الخطأ في إدعاء نفي شيء بدون دليل لا يقل عن الخطأ في إدعاء الإثبات بدون دليل. وهذا يكشف لنا عن معنى كبير يجب علينا نشره وإيضاحه وتوعية الناس به وهو أن الخرافة كما تكون في اعتقاد ثبوت أشياء لا وجود لها ولا حقيقة لها ولا دليل عليها، كذلك تكون الخرافة في اعتقاد انتفاء أشياء موجودة وثابتة بلا دليل على انتفاءها وبلا برهان على عدم تحققها.
ولم يخلُ كتاب الله العزيز عن الإشارة إلى هذه المعاني كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. ووجه الإشارة في الآية الكريمة أن الله تعالى طالبهم بالبرهان على النفي. وأيضًا في قوله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39]. ووجه الإشارة في الآية الشريفة – كم ذكره الإمام أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله – أن الله تعالى ذمهم لأجل أنهم قطعوا بالنفي من غير دليل، فدل على أن ذلك باطل.
كما لم تخلُ كتب التراث الإسلامي عن التنصيص على هذه القاعدة وشرحها، أعني: لزوم الدليل في النفي مثل لزومه في الإثبات. فقد جعل لها الإمام سيف الدين الآمدي رحمه الله مسألةً خاصةً في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» تحت عنوان: «النافي هل عليه دليل أو لا؟». وتكلم عليها وبحثها غيره من الأئمة كحجة الإسلام الغزالي في كتابه في أصول الفقه المسمى بـ«المستصفى»، والقاضي الشافعي أبي إسحاق الشيرازي في «شرح اللمع»، والفقيه المالكي أبي الوليد الباجي في كتاب «إحكام الفصول» والعلامة البابرتي الحنفي في «شرح مختصر ابن الحاجب» وغيرهم. وقد سبق النقل عن «شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا» للإمام فخر الدين الرازي.
وبهذا نكون قد ألمحنا إلى طرَف مما كُتب في تقرير هذا القاعدة المهمة من قواعد الاستدلال، والتي بالانتباه إليها يتجنب الباحث الوقوع في الكلام بغير علم، وبرعايتها لا يدعي إنسان دعوى النفي بلا حجة أو برهان. وواجب من لا يجد دليلًا على إثبات شيء معين ألا يسارع إلى إنكاره، بل يتوقف، فلا يثبت ولا ينفي، حتى يتبين له الصواب من الخطأ، وحتى يستوعب أطراف الموضوع ويستكشف جوانب المسألة. وهذا الإجراء – أي التوقف دون الإثبات أو النفي حينما تتعارض الأدلة أو لا يجد الإنسان الدليلَ على مطلوبه – هو دأب العقلاء في النظر والاستدلال. ولعلنا نشرح هذا المعنى بشكل أكبر في مقال قادم بإذن الله تعالى. والله الهادي لا رب سواه.