م. شريف خيري
مهتم بالعلوم الإسلامية
يقول الفتى: “أنا مؤمن بوجود إله، لكن لماذا عليّ أن أبحث في قضية الأديان هذه؟ أنا أعيش حياتي بدون الحاجة لذلك فلماذا أُتعب نفسي بالبحث؟”
أولا: لا ينبغي أن تكون (الحاجة) هي الباعث الوحيد للبحث عن الحقيقة، فالحق قيمة عُلْيا ينبغي السعي إلى معرفتها لذاتها، سواء كانت ستعود عليك بالنفع أو لا، وسواء كنت محتاجًا لها أو لا.
ثانيا: الحق أنك إن كنت مؤمنًا بالله فأنت تحتاج للدين، ولكن المشكلة ربما أنك لا تدرك أنك محتاج له، وهذا نوع من الجهل المركب أو الخداع الإنساني الذي تقوم به نفس من لم ينشط إلى البحث عن الحقائق، وإليك بيان احتياجك هذا، ولكن اسمع مني هذا المثال أولا:
لو أنك تملك أرضا، ويملك غيرك أرضا مجاورة لها، ثم دخلت أنت أرضه وبنيت عليها بناء من دون أن تستأذنه، هل فعلُك هذا حق؟ بالتأكيد لا، لأنك تصرّفت فيما لا تملك، والتصرف فيما لا نملك بدون إذن من المالك نسميه ظلما؛ والظلم باطل عند كل عاقل.
وكذلك أنت، فقد أدركت وجود الله، وعلمت أنه قد خلق كل شيء وأنه المالك لكل شيء، فالماء والزروع والحيوان والهواء من ملكه، وقد عرفت أن التصرف فيما لا تملك بدون إذن من المالك يكون ظلما، فمن هذا الباب، ينبغي عليك ألا تتصرف فيما لا تملك، فالماء الذي تشربه ليس ملكك، والحيوان الذي تذبحه والزروع التي تلتقطها والهواء الذي تستنشقه والأرض التي تسير عليها، كل هذا ليس ملكك، فلا ينبغي لك أن تستخدمه إلا بإذن من المالك، وإلا تكون ظالما متعديا.
ولا سبيل لك لمعرفة إن كان المالك قد أذن لك أو لا، إلا بأن يخاطبك مباشرةً، أو يرسل لك رسولا يعرّفك أنه يأذن لك بكذا ولا يأذن لك بكذا، وبغير ذلك تكون في معضلة أخلاقية لا تخرج منها أبدا.
ثالثا، العاقل إذا سمع بأنه سيتعرض لعقوبة شديدة أو سيحصل على خير عظيم إذا فعل شيئا ما، فإنه -أقل القليل- سيتحرى عن ذلك الذي سمعه، فالرجل الذي يسبح على الشاطئ إذا سمع أحد الناس يقول له احذر فإن بجانبك قنديل البحر، فإنه أقل القليل سينظر حوله ويتبين إن كان هذا كلاما صحيحا أو لا، كذلك إن قال له أحد الناس أن السيارة التي يحتاج شراءها سيخفّض ثمنها يوم كذا، فإنه أقل القليل سيتبين إن كانت دعواه هذه صحيحة، فالعاقل لا يحب أن يعرض نفسه للخطر، كما لا يحب أن يفوته الخير؛ وكذلك في أمر الدين، إذا سمع العاقل بأن هناك أمر ينبني عليه ثواب أبدي كبير أو عقاب أبدي شديد، وهو محتمل عنده في العقل، فإنه أقل القليل ينظر في تلك الدعوى، ليعلم إن كانت صادقة أو لا.
فهذه أسباب أربعة، لا ينبغي لعاقل أن يخرج عنها، فالعاقل:
1-إما أنه يبحث عن الحق لذاته، وهو أشرف الأنواع.
2-وإما أنه يبحث عن الحق لأنه محتاج إليه ليحل معضلته أخلاقية.
3-وإما أنه يبحث عن الحق طمعا في الخير الذي يترتب عليه.
4-وإما أنه يبحث عن الحق خشية ما قد يصيبه إذا أهمله.
وكل سبب منهم كافٍ للعاقل ليبحث في قضية الدين، واجتماعهم الأربعة أدعى للبحث.
أما الإنسان الذي يزهد في البحث بعد كل ذلك؛ فلا يبحث عن الحق لذاته، ولا يبحث عنه مع احتياجه إليه، ولا يبحث عنه ليتحقق من دعاوى النعيم والعذاب الذي قد يصيبه، فهذا سفيه، قد استرذل عقله ورضي من نفسه بمنزلة دون منزلة البهائم، وفيه يصدق قول الله تعالى: “أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إنْ هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا”، كما أنه ظالمٌ بكونه يتصرف فيما لا يملك بدون إذن من المالك، فلا يلومن يوم القيامة إلا نفسه.
ولا شك أن الذي يبحث في الأديان، له أن يطالبنا بالدليل على صدق الإسلام، وله ألا يقبل إلا الأدلة اليقينية، وله أن يستوضح ويستشكل ويناقش ويُجاب عن أسئلته، لكن هذا كله شأن آخر، فالكلام هنا عن ذلك الفتى الذي يزهد في قضية البحث أصلا.