أحمد سيف
مديرالمبادرات في مؤسسة طابة.
شهر عظيم، عظمه الله سبحانه وتعالى كما عظم غيره من الأوقات والأماكن والأشخاص. وهذا التعظيم الرباني الذي يختص به الله أشياء دون أشياء لا بد أن يتوقف معه الإنسان ويتأمل فيه لأن الله حكيم ولا يتصرف إلا عن حكمة. ومن جعل الله له فهم في الحكمة فقد أوتي خيرًا عظيمًا كما قال سبحانه وتعالي: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] أي أصحاب العقل والفهم.
ومن طي هذه الحكمة التي آتاها الله الخواص من عباده الصالحين كان لهم بصيرة يتلمسون بها الجمع بين ظاهر الأشياء وبواطنها، وصورها وحقائقها، وكان لهم فهم واعتبار في أسرار العبادات ومعانيها وعلاقة هيئاتها الظاهرة بأنوارها الباطنة. وفي هذا المقال سنحاول تلمس شيء من هذه المعاني في الكلام عن فريضة الصوم.
الصوم في لغة يعني الإمساك أي الامتناع، وفي الاصطلاح أي معناه في الدين هو الإمساك عن كل مفطر من طلوع الفجر الصادق حتى المغرب بنية. والصوم يختلف عن باقي العبادات أنه عبادة ترك لا عبادة فعل، فالصلاة والزكاة والحج والذكر أعمال يأتي بها الإنسان ليطيع الله سبحانه وتعالي، أما الصوم فهو مبني علي ترك مجموعة من الأشياء محببة للنفس ومطلوبة لها طلبًا لرضا المولي عز وجل.
وفي الكلام عن كون الصوم عبادة ترك يقول الإمام الغزالي في كتابه المشهور إحياء علوم الدين أن الصوم عبادة صبر محض، لأن معدن الصوم صبر الصائم على ما يحتاج تناوله من المفطرات حتى يحل وقت الإفطار. والصبر عبادة قلبية باطنية لا يطلع على حقيقتها أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وهذه خصوصية للصوم ليست في غيره من الأعمال التي يكون لها أثر ظاهر علي العبد.
فالصوم إذًا عبادة تفتح باب الإخلاص للمتعبد بها، وتربيه على أن يكون صاحب سر مع مولاه عز وجل، وكل من كان له جهد في مراقبة مولاه بقلبه ينفتح له باب التقوى، لأن التقوى لا تكون إلا بمراقبة. من أجل ذلك كانت التقوى هي ثمرة الصيام التي وعد بها الله سبحانه وتعالي الصائم فقال عز وجل {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
والمتروك في حالة الصوم هو ما يكون به حياة الإنسان ووجوده، فالطعام به تستمر حياة الإنسان والنكاح به يستمر وجود الإنسان، وترك ما يكون به حياة الإنسان لأجل خالقه من أعظم معاني العبودية، لأن الصائم يقدم رضا ربه علي وجود ذاته ويرضى بفناء ذاته طلبًا لرضا ربه.
ولما كان الصائم يذيب نفسه في العبودية ويؤثر ربه علي نفسه هذا الإيثار استأثر الله سبحانه وتعالى بنسبة صوم الصائم لنفسه، فقال في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)، لأن الجزاء من جنس العمل. فلما رضي الصائم بترك نفسه ومتطلباته وأسباب بقائه من أجل مولاه أبقى الله جزاءه بنسبته لنفسه وهو الباقي سبحانه وتعالى.
ومن رحم الصوم يذوق الصائم معني صمدية الله عز وجل أي غناه عن كل شيء وافتقار كل شيء إليه. وهذا لأن بعض أسماء وصفات الله يعرفها العبد بنوع من التخلق بها في ذاته وبعضها يعرفها بشهود مقابلها في ذاته لعدم وجود مناسبة لها في ذات العبد. فالرحمة مثلا يعرفها الإنسان بشهودها في المخلوقات كالأم مع ولدها، ولكن الصمدية لا تخلق للعبد بها فيعرفها بضدها وهي الفاقة. فإذا امتنع العبد عن أسباب الحياة من مأكل ومشرب ومنكح بضع سويعات يشهد في نفسه الضعف والعجز، فيعرف بذلك مولاه الذي لا يحتاج لطعام ولا لشراب ولا لزوج ولا لولد من الأزل إلى الأبد سبحانه وتعالي عن كل نقص وضعف.
إذًا فالصوم مدرسة كاملة، تهذب ظاهر الإنسان بتركه لمألوفاته وعاداته، وتهذب باطن الإنسان بإيثاره لمولاه على نفسه والصبر على مراده، وكذلك تُعرِّف الإنسان بفقره واحتياجه وتعرفه بغنى مولاه وعزته. ولا شك أن من يصوم بقلب حاضر مع هذه المعاني يكون له نصيب من الفهم عن الله عز وجل الذي يورثه حكمة ومعرفة ينتفع بهما في الدنيا والآخرة.