لقد اشتهر في بعض الأوساط الإعلامية وبعض الدوائر الفكرية أن التراث الإسلامي يدعو إلى الجمود والتقليد، والحق أن هذه النظرة بعيدة كل البعد عن الواقع شكلًا وموضوعًا، بل الأصل المركوز في البناء المعرفي والكيان العلمي للتراث الإسلامي هو البحث والفحص والتفتيش والاكتشاف. ولهذا الأصل مظاهر متنوعة من أبرزها اعتناء علماء المسلمين بالسؤال كوسيلة معرفية وكقيمة علمية. فإن السؤال العلمي كان سمة يتميز بها طالب العلم عن سائر الناس حتى أن حتى أن الإمام برهان الدين الزرنوجي حكى عن عُرف المتقدمين في كتابه «تعليم المتعلم»([1]) فقال: «وإنما سمي طالب العلم: «ما تقول» لكثرة ما يقولون في الزمان الأول: ما تقول في هذه المسألة؟» يعني اللقب الذي أطلق على طالب العلم قبل زمان الإمام الزرنوجي رحمه الله، أي قبل القرن السادس الهجري، هو «ما تقول»، وذلك لشدة عناية الطالب آنذاك بالاستفهام وكثرة انخراطه في التفتيش عن المعرفة.
ولم يكن هذا الأمر منحصرًا في العلوم العقلية والنظرية كالفلسفة والمنطق وعلم الكلام أو العلوم العملية والصناعات، بل كان أمرًا عامًا اشترك فيه أصحاب العلوم العقلية والعلوم النقلية على حد سواء. فقد وروى الإمام ابن عبد البر المالكي في «جامع بيان العلم وفضله»([2]) بسنده إلى إمام اللغة العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله أنه قال: «العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها». وهذا المعنى الذي جاء على لسان جهبذ العروض وأستاذ أساتذة النحو ومخترع علم المعجمات جاء أيضًا على لسان الإمام ابن سيرين رضي الله عنه حيث قال فيما روى عن القاضي الرامهرمزي رحمه الله في «المحدث الفاصل»([3]): «إن للعلم أقفلة، ومفاتيحها المسألة». وجاء أيضًا على لسان المحدث الكبير الإمام ابن شهاب الزهري رحمه الله حيث قال: «للعلم خزائن، تفتحها المسألة»([4]). فإذَنْ إمام في اللغة وإمام في التفسير وإمام في الحديث أجمعوا الثلاثة على أن السؤال هو وسيلة تحصيل العلوم واستخراج المعارف. والإمام الزهري تحديدًا اشتهر بكثرة سؤالاته وقد بلغ بها مبلغًا عريضًا في رواية الحديث، فقد روى القاضي الرامهرمزي في «المحدث الفاصل»([5]) بإسناده إلى إبراهيم بن سعد أنه قال لأبيه سعيد بن إبراهيم: «بم فاقكم الزهري؟» يعني كيف تفوق عليكم الزهري وحاز على هذه المرتبة العليا في الحديث؟ فرد عليه أبوه مبيِّنًا وموَّضحًا سبب علو كعب الزهري عليهم فقال: «كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يأتيها من خلفها، ولا يبقى في المجلس شابًا إلا ساءله، ولا كهلًا إلا ساءله، ولا فتًى إلا ساءله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار، فلا يبقى فيها شابًا إلا ساءله، ولا كهلًا إلا ساءله، ولا فتًى إلا ساءله، ولا عجوزًا إلا ساءلها، ولا كهلةً إلا ساءلها، حتى يحاول ربات الحجال». يعني أن الإمام الزهري كان لا يترك أحدًا إلا ساءله، أي بالغ في سؤاله، لشدة حرصه على المعرفة ولإدراكه أن السؤال هو الطريق الأمثل لتحصيلها.
ولا تقف قيمة السؤال عند علماء المسلمين عند ذلك الحد، بل جعلوها وسيلة لتقييم الطلاب وطريقة لمعرفة النابهين والمتفوقين منهم. فقد كانوا يعرفون نبوغ الطالب في أول أمره ويستشرفون براعته وإتقانه من جودة سؤالاته. ومن النماذج على ذلك ما ذكره الإمام شمس الدين السخاوي في «الضوء اللامع»([6]) في ترجمة الإمام ابن إمام الكاملية حيث قال: «وقد وصفه [شمس الدين] البرماوي في حال صغره بالذكاء وصحة الفهم والأسئلة الدالة على الاستعداد». فتأمل كيف أن الأستاذ يثني على التلميذ لا بحسن إجاباته ولكن بجودة أسئلته!
ومن العجيب أن هذه القيمة الكبيرة للسؤال احتفظوا بها حتى إذا كان الذي يوجه له السؤال هو السائل نفسه! قال فيسلوف الإسلام المعلم الثاني أبو نصر الفارابي في كتابه «الحروف»([7]): «واستعمال السؤال ليس إنما يكون عند مخاطبة الإنسان الآخر، لكن عندما يروّي الإنسان فيما بينه وبين نفسه أيضًا. فإنه قد يسأل نفسَه وهو نفسُه يجيب عن شيء شيء من هذه فيما بينه وبين نفسه. وليس يلتمس أن يستفيد من تلقاء نفسه إلا ذلك العلم الذي كان يؤمل أن يستفيده من غيره إذا سأله عنه». فالسؤال في نظر الفارابي ليس فقط وسيلة لتحصيل المعرفة من الغير، بل الباحث يستعمل السؤال فيما بينه وبين نفسه كوسيلة من وسائل الغوص في العلم. وما قرره الفارابي أصبح طريقةً معتمدةً في طرق القراءة وأساليب مطالعة المؤلفات، فإن العلامة حامد الغفاري رحمه الله في رسالته في آداب المطالعة رسم منهجًا عمليًا لفهم الكتب والمصنفات مبنيًا على مسائلة النص واختباره بالأسئلة النقدية. ومن العلماء الذين اشتهروا بتطبيق هذا الأسلوب في القراءة العلامة سعد الدين التفتازاني رحمه الله، فقد وصف العلامة قَنَالي زاده رحمه الله عمل السعد التفتازاني في حاشيته على «الكشاف» لجار الله الزمخشري فقال: «وكثيرًا ما ترى العلامة التفتازاني يوجه كلام «الكشاف» بتقرير يندفع به اعتراض أبي حيان، ولا يصرح به، ولا يُدرى أنه اطلع على تفسيره وإعرابه أم يغوص بقوة فكره على السؤال وجوابه»([8]). والمقصود أن للإمام المفسر أبي حيان الأندلسي له اعتراضات على كتاب «الكشاف»، وهذه الاعتراضات كأنها أسئلة نقدية أوردها على آراء الزمخشري. والعلامة قنالي زاده يرى أن التفتازاني في الحاشية التي ألفها على «الكشاف» يأتي بأسئلة ويجيب عنها، وتلك الأسئلة هي بعينها الاعتراضات التي جاء بها أبو حيان. ولاحظ أن العلامة قنالي زاده لم يفترض مباشرة أن التفتازاني إنما وقف على تلك الاعتراضات في كتاب أبي حيان «البحر المحيط»، بل قال: «ولا يُدرى أنه اطلع على تفسيره وإعرابه أم يغوص بقوة فكره على السؤال وجوابه»، وذلك لما عهد عن التفتازاني من استعمال الأسئلة النقدية كوسيلة للبحث والتفتيش المعرفي.
وأخيرًا وليس آخرًا، لقد طور العلماء المسلمين الأكراد وظيفة السؤال حيث اعتمدوا على أسلوب المباحثة كطريقة في التدريس والتعليم. والمباحثة العلمية تستند في الأساس على السؤال والجواب. قال الشيخ المحبي في «خلاصة الأثر»([9]) في ترجمة العلامة صالح الرومي المعروف بـ«درس عام القسطنطيني»: «المحقق الشهير أحد من أدركته فرأيت الفضل مشتملًا به، وهو أحد نوادر الدهر في الفضل والإتقان وتحقيق العلوم، ولفضلاء الروم تهافت بالغ على الوصول إليه والاقتباس مما لديه، وهو في نفس الأمر عجيب الصنعة في تقريره وتفهيمه جار على طريقة محققي العجم والأكراد في مراعاة آداب البحث». والشاهد من هذا النقل أن العلامة صالح الرومي اشتهر في تدريسه باستعمال آداب البحث المبنية على السؤال والجواب. ومما يؤكد هذا المعنى أن العلامة العياشي رضي الله عنه وصف في «رحلته» الموسومة بـ«الرحلة العياشية»([10]) طريقة شيخه الكردي الإمام العلامة العارف بالله سيدي برهان الدين إبراهيم الكوراني رضي الله عنه فقال: «إذا وجده من لا يعرفه في محل درسه مع أصحابه لا يميز بينه وبينهم لاختلاطه بهم ولعدم تصديره وإظهار التمييز عليهم، حتى في كلامه وتقريره للأبحاث يبدي ذلك على وجه يشبه المذاكرة والمفاوضة، فيقول: لعل كذا وكذا، ويشبه أن يكون كذا، أترون أن هذا يفهم على هذا؟». فكان أسلوب العلامة الكوراني في التدريس مبني على المحاورة وطرح الأسئلة على الطلاب بغية تنمية الفكر واستجلاء المعاني واستيعاب ما كتب في المؤلفات.
فهذه بعض المشاهد السريعة لأحد جوانب الروح العلمية التي سادت عند علماء الإسلام القائمة على تعظيم شأن الفحص والبحث والتفتيش، وهي مباينة ومغايرة لما عهده البعض من أن التقليد والجمود هو الجادة المتبعة والطريقة المعهودة عند المسلمين، والحقيقة كما أسلفنا على النقيض من ذلك. والحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه