د. جاد الله بسام
باحث في العلوم العقلية وتفسير القرآن.
يعتقد كثير من الناس أنّ الإنسان يُوهَب دينه وهباً بحكم دين الأبوين، ويعتقد آخرون عدم الحاجة إلى النظر والتفكير في ذلك الدين الذي يعتنقونه.
مرّة؛ كنت برفقة رجل محترم جدّاً من السّادة الصوفية، وصار بيني وبينه تجاذب في طريقة الوصول إلى الحقائق، فمال صاحبي العزيز إلى أنّ ذلك يوهب للإنسان وهباً بفضل الله تعالى كشفاً وإلهاماً، فوافقته في ذلك، وادّعى أنه ليس هناك طريق آخر، وخالفني في إمكان الوصول إلى المعرفة بالعقل والفكر.
وصدف أن ناقشت شخصاً آخر في القضية نفسها، فقال إنّ عقائد المسلم ليست كشفاً ولا إلهاماً ولا كسباً بالعقل، وإنما هي كتاب وسنة واتّباع، ولم يقبل مني كلاماً، ورماني بالبدعة وذهب، غفر الله لي وله.
إنّ هذه المسألة التي يدور حولها نقاش كبير بين أرباب الفكر والاعتقاد والفلسفة في هذا الزمن، شغلت العلماء والفلاسفة من قديم، وناقشوها نقاشاً مستفيضاً، وما ذلك إلا لأهميتها القصوى في حياة الإنسان وأسئلته الوجودية المؤثرة، بل إن الاهتمام بها تعدى ذلك إلى أن صار حديث كثير من المثقفين والمشتغلين.
السادة الصوفيّة، والباطنية، والفلاسفة، والسُّمنية، والمهندسون، وأهل السنة والجماعة أشاعرةً وماتريديةً، وإيمانويل كانط، وكارل بوبر، وغيرهم من الفلاسفة الغربيين القدماء والمعاصرين، وفرق أخرى وتوجهات ذات وزن فلسفي كبير، أدلت بدلوها في هذه القضية المهمة، وأحاول في هذا المقال تلخيص هذه الآراء، لعل ذلك يفتح باباً لنوع من الاستبصار والاستذكار في باب العقائد والأفكار، وليست نسبة الأقوال إلى أصحابها موضع اهتمامي هنا، وإنما أهتم بالآراء فقط بما يوضح هذه القضية.
ما القضية؟
قضيتنا تتعلق بالمعرفة الدينية، أي: هل يمكن حصول معرفة الله تعالى وصفاته وأحكام الغيب التي تخبرنا بها النصوص الدينية المقدسة، كوجود اليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب، وأن هذا حرام وهذا حلال؟ وإن أمكن الحصول، فكيف الوصول؟
ويمكن إقامة دعاوى قضيتنا في الأسئلة الآتية: هل ثمّت ما يقال عليه إنه معارف دينية أصلاً؟ وهل يمكن الحصول عليها؟ وما الطرق التي تحقّق لنا مثل هذه المعارف الدينية؟
هل ثمّت معارف دينية أصلاً، وهل يتوصّل إليها؟
ذهب بعض أصحاب الملل والنحل إلى عدم وجود معرفة دينية أصلاً، لأنهم أنكروا وجود الله والنبوات والغيبيات مطلقاً، وبعض أصحاب المقالات أثبت وجود الله تعالى والنبوات والغيبيات، لكن قالوا لا يمكن التوصل إلى شيء من ذلك، لأنّ الأدوات المعرفية الإنسانية لا يمكنها الاتّصال بهذه المبادئ العليا بزعمهم، وبعض الفرق أقرت بإمكان حصول المعرفة والوصول إليها أيضاً، ولكن اختلفوا في الطرق الموصلة إليها.
فخلاصة الآراء في “ثبوت المعارف الدينية والوصول إليها” ثلاثة: أوّلاً: عدم وجود معارف دينية، ثانياً: وجود معارف دينية لكن لا يمكن التوصل إليها، ثالثاً: وجود معارف دينية ويمكن التوصل إليها.
ما الطرق الموصلة إلى المعرفة الدينية؟
ذهب بعض الفلاسفة القدماء والمتخصّصين في المجالات الطبيعية والعلوم التجريبية أنه لا معرفة ولا جزم إلا بواسطة الحواسّ، فكلّ ما لم يكن محسوساً خاضعاً للقياس المخبري فإما أن يكون غير ثابت أصلاً، أو لا يمكن إثباته ولا نفيه على الأقل، وهذا الرأي ضعيف جداً، فإنّ المعلومات البديهية التي يحكم بها العقل معروفة وثابتة قطعاً، وهي غير حسية، كقولنا (1+1= 2)، فإننا نقطع بهذا بدون استعمال الحواسّ.
وذهب بعضهم إلى أنّ مصدر المعرفة هو السماع ممن يمتلك هذه المعرفة وتقليده، فالمعرفة الدينية عند هؤلاء منحصرة في المنقول دون المعقول، وليس لنا على قول هؤلاء إلا أنْ نقلد الشيوخ والأساتذة والمربين والفلاسفة، وقولهم ضعيف جداً، لأنّ من حق أي شخص أن يسأل ببداهة: معرفة الشيوخ والفلاسفة التي يفترض بنا متابعتها.. من أين جاءت؟ وحينئذٍ فلا بدّ أن تكون منتهية إلى معرفة غير منقولة.
وذهب آخرون إلى أنّ مصدر المعرفة هو العقل فقط، فلا مجال لمعرفة شيء إلا بالعقل، ولا تعويل على أي نقل أو خبر، فما لم يصل إليه العقل بنفسه فلا ثبوت له، وعلى قول هؤلاء فليس لأحد أن يتبع أحداً مطلقاً، بل لا بدّ أن يستقلّ كلٌّ بنفسه، وهذا فيه تناقض، لأنّ الدليل العقلي نفسه يؤدي بنا إلى إثبات المعرفة النقلية، فالخبر المتواتر صادق وصحيح بالدليل العقلي، مثلاً: يخبرنا جمعٌ كبير جداً من الناس من أصقاع شتى من العالم على ما بينهم من البعد والاختلاف في الفكر، يخبروننا بوجود عيسى وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، أو وقوع حرب البسوس في تاريخ العرب، وهم بدورهم أخذوا هذا الخبر عن جمعٍ آخر كالجمع الأول، وهكذا، فنحن نجزم بذلك الخبر بيقين لا يدع مجالاً لاحتمال عدم صحته، فإنكاره مع عدم احتمال إنكاره تناقض، والتناقض مبطلٌ للدليل العقلي نفسه.
ورأي أخير؛ وهو أن المعرفة قد تحصل بغير واسطة هذه الطرق السابقة، بل تحصل بالإلهام الإلهيّ المباشر في القلب، فما يعرفه الإنسان بحسب هذا المذهب يعرفه بقلبه عن ربه بلا وسائط الحسّ أو العقل أو النقل، وهذا رأي ممكن لكنه قاصر، لأنّ النقطة العمياء في هذا الرأي أنّ المعلومة المنكشفة بهذه الطريقة تبقى مقصورة على صاحب الكشف، فإذا أراد شخص آخر أن يعرفها، فإمّا أن يتبع لتحصيلها العقل فقط أو الحسّ فقط أو إخبار ذلك الشخص فقط، فينقلب الإلهام والكشف إلى الوسائط المعرفية السابقة، فالإلهام إذن قد يفيد معلومة لصاحبه فقط، لكن لا يقوى على النهوض للحجاج، وأيضاً: كم واحداً في الناس هو “الملهم المكاشف”!!
ما الحلّ؟!
المحقّقون من علماء أهل السنة والجماعة درسوا هذه الآراء ومواطن الخلل والقوة فيها، فخلصوا إلى إثبات المعرفة بالحسّ والعقل والخبر الصادق، وهذا الرأي هو الذي يمشي عليه الناس في حياتهم من غير شعور بذلك أو إدراك فلسفي مسبق، فتجدنا نحن بني البشر نحسّ بالمحسوسات من حولنا فنعرف ما أحسسنا به، ولا نشكّ في ذلك، وندرك معارف عقلية بديهية غير معتمدة على الحسّ، ولا نشكّ فيها، وتنقل إلينا أخبار معينة كإلقاء قنابل نووية في الحرب العالمية، ولا نشكّ في هذه الأخبار.
هل يتفاوت الناس في طريقة إدراك المعارف الدينية؟
إذا لاحظنا الطرق السابقة في المعرفة؛ فإننا يمكن أن ندرك بسهولة أن الناس جميعهم مهما اختلفت أديانهم يشتركون في المعارف الحسية، والعقلية، والنقلية، لأنّ هذه الوسائط المعرفية مستعملة عند الجميع، وهذا لا يعني عدم التفاوت فيها، بل قد يتفاوتون، كما يتفاوت الإخوة من أب وأم في بعض الميزات والصفات، لكن أصل هذا الوسائط مشترك بين جميع بني آدم، مهما اختلفت أديانهم وأعراقهم ولغاتهم، وهذا قدر كافٍ لإيجاد أرضية خصبة للتحاور والنقاش حول المسائل التي تجعلنا نتواصل ونتعايش ونبني هذا العالم بأخوة وكفاءة.
لماذا نطرحُ مثل هذه القضيّة، وهل هي مهمّة؟
إنّ البشر كما هو معلوم مختلفون في طبائعهم ومداركهم، وقد تفرقهم حدود الزمان والمكان، بل تفرّقهم اللغة والعرق، وقد يتعصّبون بطبيعتهم البشرية للملة والدين، ومع ذلك فهم محتاجون للتفاهم والاتفاق حتى لا تقع الحروب والنزاعات، فكان لا بدّ من قاعدة مشتركة، وجامع فكري يتحاكمون إليه ويديرون به خلافاتهم الفكرية والعملية.
ومن جهة أخرى؛ فإنّ الإنسان يشعر بالحاجة الملحّة إلى الاطمئنان والسكينة الفكرية، ولذلك يبحث عنها في كل مكان، وهي في الحقيقة تنشأ عن اعتقاده وإدراكه، ولذا كان البحث في قانون هذا الإدراك ومنهجه وكيف يكتسب من الأهمية بمكان.
وأخيراً؛ فإنّ هذه القضية لا تخصّ المسلمين وحدهم، بل يشترك فيها كل صاحب دين أو فكرة، بل كل إنسان بطبيعته القلبية والعاطفية والعقلية يحتاج إلى إجابات عنها، والمسلم مسلم بإيمانه بالشهادتين وبما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كأيّ واحد من البشر ذوي الأسماع والأبصار والعقول ينبغي أن يدرك هذه المعلومات ويكتسبها معرفياً ليبني ذاته على منهج قويم ودليل مستقيم، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].