في عالم موازي

.

في عالم موازي

محمد مصطفى عبد الظاهر

مسؤول سفارة المعرفة بمكتبة الإسكندرية

تقديم:

من الملاحظ في العقدين الأخيرين زيادة عدد الأعمال الدرامية التي تذكر العوالم الموازية باعتبارها نظرية علمية، وأحيانا تتطرق لبعض التفاصيل عن منشأها المرتبط بعلم ميكانيكا الكم، حتى أن سلسلة الأفلام الجديدة للأبطال الخارقين من شركة مارفل اتخذت هذا الموضوع تيمة أساسية لها، ومنها فيلم Spiderman: No way home الذي تم عرضه ومناقشته منذ فترة في سينما مبادرة سؤال.

ولكن قبل الدخول في تفاصيل فكرة العوالم الموازية وعلاقتها بميكانيكا الكم، دعونا أولا نتعرض لمقدمة أساسية في فلسفة العلوم.

عن العلم، وشبه العلم:

في البداية تجدر الإشارة إلى أننا لا نحصر العلم في المحسوس فقط، وإنما من باب الترخص نشير للعلم التجريبي باعتباره “العلم.

يتخذ العلماء التجريبيون منهجية معينة للوصول إلى النتائج المفيدة، فيما يعرف بالمنهج العلمي، ويعرفه قاموس أكسفورد بأنه: المنهج التجريبي الذي ميز العلوم الطبيعية منذ القرن السابع عشر، ويتكون من ملاحظة الظواهر، رصدها وقياسها، صياغة فرضيات، اختبارها بإجراء التجارب عليها، صياغة قوانين تصف سلوكها، ومن ثم التعديل على الفرضيات الأصلية إن لزم الأمر.[1]

ولكن لوحظ ظهور بعض الموضوعات التي تحقق شكل المنهج العلمي بكافة خطواته، وبالتالي يُدّعى كونها علمية، بالرغم من أن عموم العلماء في المجالات المتماسّة معها يرفضون هذا الادعاء ويصفونها بأنها ليست علمية، مثل موضوعات التنجيم، العلاجات البديلة، القدرات الشعورية الخارقة ESP، والماورائيات عموما.

ولذلك رسم فيلسوف العلوم الأشهر، سير كارل بوبر، الحد الفاصل بين العلم وشبه العلم (أو العلم الزائف Pseudo-science) وهو ما تلقاه عموما العلماء التجريبيون وفلاسفة العلم من بعده بالقبول، حتى صار من تعريفات المنهج العلمي نفسه. وهذا الحد الفاصل هو ما أسماه: القابلية للتخطئة أو الدحض falsifiability، وهي خاصية متعلقة بخطوة اختبار الفرضية من خلال التجارب، فالعلم يسعى لإجراء تجارب تثبت خطأ فرضيته، بينما شبه العلم يسعى لإجراء تجارب تثبت صحة فرضيته فقط، ويكون شبه العلم جاهزا بردود وتفسيرات لأي نتائج لا تتوافق مع فرضيته الأصلية لكي يجد لها مبررات غيبية، فيتجنب إمكانية تخطئتها.

أي أن العلم يسعى للتخطئة.

وشبه العلم يسعى للتأكيد.[2]

فمثلا ادعاء أن كوكب المريخ يدور حول الشمس في مسار دائري، هو ادعاء يمكن تخطئته برصد مسار كوكب المريخ، فمن المحتمل حينها أن نلاحظ حيوده عن المسار الدائري، لذا نقول بأن هذا الادعاء علمي. بينما الادعاء مثلا أن الاستماع لمقطع صوتي معين يشفي مريض السرطان إذا تحلى بالإيمان الكافي بقدرة المقطع على علاجه، هو ادعاء غير علمي، لأنه لا يمكن عمل تجربة تثبت خطأه، فأنت إن أسمعت مريض السرطان هذا المقطع ولم يُشف، سيرد عليك صاحب الادعاء بأن كل ما هنالك أن هذا المريض لم يحقق شرط الإيمان الكافي بفاعلية المقطع الصوتي في شفائه، والذي هو شرط غيبي لا يمكن اختباره.

ويجدر الإشارة أن هذا المعيار يظل ساريًا بصرف النظر عن نتيجة التجربة، فقد يحدث أن يُشفى المريض فعلاً بعد سماع المقطع، ولكن ذلك لا يغير شيئًا من أن الادعاء ليس علميًا -أي لا يمكن تخطئته بتجربة- فقد يتصادف شفاؤه مع سماع المقطع، أو يكون بينهما علاقة نجهلها، أو غير قابلة للقياس، فكل هذا لا يغير من حقيقة أن الادعاء غير علمي. وكذلك العكس في ادعاء مسار كوكب المريخ إذا رصدناه ووجدناه بيضاويا وليس دائريا، فهذا لا ينفي أن الفرضية الأولى بأنه دائري هي فرضية علمية –حتى بعدما ثبت خطؤها- لأنه ثمة تجربة يمكنها تخطئة الفرضية.

إذن فكون الأمر صحيحا في ذاته أو غير صحيح، ليس له علاقة بكونه علميًا أو غير علمي، ففي المثالين السابقين كما أن فرضية دائرية مسار كوكب المريخ كانت علمية ولكن غير حقيقية، فقد تكون فرضية شفاء المريض بسماع “شيء ما” حقيقية، ولكنها تستمد حقانيتها من مصدر معرفي آخر غير العلم التجريبي، أي تكون حقيقة ولكنها غير علمية.

 والفرضية العلمية تسعى دومًا للتشكيك في صحة نفسها بعمل المزيد من التجارب، وتصبح أقوى مع كل تجربة تحتمل التخطئة ولكنها لا تخطئها بالفعل، أما إذا جاءت تجربة أثبتت خطأها أو عدم دقتها، فإننا ننتقل إلى فرضية جديدة، بشرط أن تكون قابلة للتخطئة أيضا، فهذا هو الحد الفاصل بين العلم وشبه العلم.

التفسيرات العجيبة لظواهر ميكانيكا الكم

يقول موراي جل-مان الحاصل على نوبل في الفيزياء: “إذا ادعى شخص ما أنه يستطيع أن يفكر أو يتحدث عن ميكانيكا الكم بدون أن يكون متحيراً؛ فذلك يعني فقط أنه لا يفهم أي شيء عنها”[3]

ويقول ريتشارد فاينمان الحاصل أيضا على نوبل في الفيزياء أيضًأ، وصاحب قانون باسمه في نفس المجال: “أستطيع القول بثقة: أنه لا يوجد أحد يفهم ميكانيكا الكم”[4]

كيف يكون هذا؟

لأن الفيزياء الكلاسيكية التي تدرس الموجات، والأجسام الماكروسكوبية (الكبيرة نسبيا) تتفق مع مشاهداتنا اليومية، أو ما يعرف بقوانين العادة، أما فيزياء الكم فهي في كثير من جوانبها تتجاوز هذه القوانين المعتادة، لدرجة تصل بالبعض إلى ادعاء أنها تتجاوز قوانين العقل، فتصبح غير قابلة للفهم أو التصور.

لكن تجاوز قوانين العقل محال، لأن تلك القوانين تمثل عملية التفكير نفسها، فلا يمكن باستخدام العقل والتفكير التوصل إلى عدم وجود أساس للتفكير، وإلا عاد هذا التفكير على نفسه بالنقض، وأصبحت نتيجته بلا قيمة، فمثلا لا يمكن التوصل لتجاوز قانون عدم اجتماع النقيضين (استحالة أن يكون الشيء موجودًا ومعدومًا معاً) لأنك إن قلت بإمكان اجتماع النقيضين، فمقولتك تلك نفسها يمكن أن تجتمع مع نقيضها، وبالتالي لا قيمة لها، بل لا يصير هنالك وجود لأي حقيقة موضوعية، وتلك هي عين السفسطة.

إذن ففيزياء الكم يصعب فهمها بسبب تجاوزها لقوانين العادة التي عرفناها من الطبيعة المحسوسة (الفيزياء الكلاسيكية)، وذلك راجع إلى جهلنا بكثير من تفاصيل طبيعة عالمنا، لا سيّما فيما يتعلق بالجسيمات دون الذرية، حيث مجال عمل ميكانيكا الكم.

مشكلة الرصد

ومن هذه التفاصيل التي نجهلها، كيف يمكن لوجود راصد في تجربة ما، أن يتسبب في تغير نتيجتها، مهما كانت درجة خفاء عملية الرصد، أو حتى تأخرها عن زمن التجربة، فمثلا في تجربة الشق المزدوج نلحظ أن الإلكترونات، تتصرف كموجات، ولكن عند محاولة رصد مسارها؛ فإنها تتصرف كجسيمات، فيما يعرف ب”الطبيعة المزدوجة”، وذهب بعض العلماء لتفسير هذا السلوك بأن الإلكترون يكون في حالة تراكب superposition، أي يكون موجة وجسيم معًا، وتعبر عن حالته تلك معادلة تسمى الدالة الموجية، وهي تصف تطور حالته خلال الزمن، حتى يتدخل راصد بمحاولة لرصد حالته في لحظة معينة، فتنتهي حالة التراكب، ويختار الإلكترون حالة واحدة، فيما يعرف بانهيار الدالة الموجية، ولكن يستحيل أن يكون أي موصوف موجة وجسيم معًا لأن هاتين ماهيتان متناقضتان، فترى ما تفسير السلوك العجيب للإلكترون بحيث لا يتعارض مع قانون عدم التناقض؟

الحقيقة أنه هنالك تفسيرات عديدة، وكثير منها يناقض قوانين العادة، فمنها مثلا تفسير يقول بأن الإلكترون له إرادة مستقلة و(يشعر) بالراصد، وهو ما تم طرحه في مقال (هل يشعر الإلكترون بالخجل؟) على مدونة سؤال. ونحن الآن سنعرض تفسيرًا آخر أكثر عجبًا من هذا، وهو أنه في كل لحظة يكون هنالك اختيارين لجسيم مثلا، فإنه لا يحدث أحدهما، وإنما يحدث الاختياران معًا، ولكننا لا نرى سوى أحدهما في عالمنا، في حين يتفرع الوجود إلى عالم موازي آخر مطابق لعالمنا في كل شيء باستثناء أن الجسيم قد اختار السلوك الثاني في ذلك العالم الآخر.

وحيث أن الأحداث الكمية تحدث طوال الوقت فلو اعتبرنا فقط مليارات الذرات، فهذا يعني أنه في كل لحظة تنشأ تريليونات العوالم الموازية!

هل يمكن اختبار فرضية العوالم الموازية؟

هذه الفرضية قدمها هيو ايفريت Hugh Everett في رسالته لنيل درجة الدكتوراه بجامعة برينستون عام ١٩٥٧م، إلا أن عامة الفيزيائيين حينها رفضوها أو تجاهلوها، فأحبط وترك الفيزياء برمّتها وعمل في مجال التصنيع العسكري.[5]

وبرغم انضمام فرضيته للتفسيرات المتعددة لمحاولة فهم الظواهر العجيبة لميكانيكا الكم، إلا أنها غير قابلة للاختبار بتكنولوجيتنا الحالية ولا حتى بأي تكنولوجيا متوقعة في المستقبل، وفي صفحة موسوعة ستانفورد للفلسفة حصر ل 7 اعتراضات أخرى على هذه فرضية العوالم المتعددة هذه.[6]

حتى أنه في مجلة أيون العلمية -التي تصدر بإشراف من جامعة أكسفورد- نشر مقال بعنوان طويل هو (هل هي علم؟ الفيزيائيون النظريون الذين يقولون بفرضية العوالم الموازية يضعون سابقة خطيرة: علم غير مبني على أي دليل تجريبي)[7]

وفي مدونة مجلة ساينتفك أمريكان الشهيرة مقال آخر بعنوان (نظريات العوالم الموازية مضرة للعلم)[8]

وهذا يأخذنا لسؤال عن مقدمة مقالنا هذا، وهو لماذا الاحتفاء بمثل هذه الفرضية الواهية غير العلمية وتصديرها في الأعمال الفنية وكأنها حقيقة علمية؟ هذا سؤال متروك لتأملك، ولربما نفرد له مقالا آخر.

Screen%20Shot%202022-12-29%20at%2012.04.55%20PM.jpg

[1] https://www.oxfordreference.com/view/10.1093/oi/authority.20110803100447727

[2] https://blogs.scientificamerican.com/doing-good-science/drawing-the-line-between-science-and-pseudo-science/

[3] https://www.brainyquote.com/quotes/murray_gellmann_305942

[4] https://arxiv.org/abs/1912.08090

[5] https://www.scientificamerican.com/article/hugh-everett-biography/

[6] https://plato.stanford.edu/entries/qm-manyworlds/#ObjeMWI

[7] https://aeon.co/essays/post-empirical-science-is-an-oxymoron-and-it-is-dangerous

[8] https://blogs.scientificamerican.com/cross-check/multiverse-theories-are-bad-for-science/

FacebookTwitterPinterestEmailWhatsApp

Share

قم بتقييم المحتوي