كتبه: الباحثة عزة العابدة
بالأمس كنت أتحدث مع ابنتي عن الصلاة وأهميتها، وكيف أنها من أكبر النعم التى منّ الله بها علينا؛ إذ جعل اتصالنا به سبحانه ميسورًا في كل حال ممكنًا في كل حين من خلال هذه العبادة الجامعة، التي هي من أجلّ وأهم مباني الدين بعد التوحيد. فالإنسان إذا أراد أن يكون قريبًا من ربه مالكًا زمام نفسه فعليه بالصلاة وكثرة السجود. ختمت كلامي معها بأنه على الإنسان أن يستشعر عظمة الله وقربه منه وهو واقفٌ بين يديه.. هنا قاطعتني ابنتي قائلة: إذا كان الله قريبًا منا فلماذا لا نراه؟ نظرت اليها والابتسامة تملأ وجهي فلطالما انتظرت منها هذا السؤال الذي شغل بالي كثيًرا وقت أن كنت في مثل سنها.
إنه السؤال القديم المتجدد؛ لأنه واحد من أهم الأسئلة الفطرية التى تتبادر إلى الذهن ” لماذا لا نرى الله جهرة فيؤمن به الجميع وينتهي الأمر؟
هذا السؤال قد يأتي في سياقين مختلفين، الأول إنكاري، يلجأ إليه من ينكرون وجود الله أو يرفضون الإيمان برسله وأنبيائه، فيكون طلبهم لرؤيته تعالى من باب التعجيز والتشكيك، هكذا كان حال بني اسرائيل مع سيدنا موسى عليه السلام، عندما تجاوزوا كل الآيات البينات والمعجزات الحادثات، وطلبوا أن يريهم الله جهرة (النساء:153). إنهم بذلك يطلبون من الخالق أن يسلّم أولًا لمطالبهم، بأن ينكشف لهم ثم يكشف لهم جميع أسراره، كشرط للإيمان بوجوده. والواقع أن المعرفة، أية معرفة، غير ممكنة بغير التسليم للشئ الذي يُراد معرفته. فطالب المعرفة يهب عقله للموضوع المراد معرفته، قبل أن يهبه ذلك الموضوع شيئًا من أسرار طبيعته. إنهم يفعلون ذلك حتى مع الحيوانات والحشرات التي يضطرون لمراقبتها في بيئاتها ويسايرونها في عاداتها، ليجمعوا حقائق حياتها. ثم يأتون ويطالبون الخالق العظيم بأن يخضع لهم ولمطالبهم حتى يقروا له بحقه عليهم! هذا لعمري عجز مريع في تصور المطلوب! فإن تصور المطلوب جزء لا يتجزأ من انكشاف حقيقته، إذ معرفة الشئ فرعٌ عن تصوره. وهؤلاء يريدون أن يخضع الإله لشروطهم أولًا، دون التزام منهم بشئ! مع العلم بأنهم هم المخلوق وهو الخالق!
أما السياق الآخر، وهو ما يهمنا في هذا المقام، فيكون طلبًا لمعرفة الحكمة، مثل سؤال الملائكة لله عزوجل عن الحكمة من خلق سيدنا آدم عليه السلام حين أخبرهم ” إنى جاعلٌ في الأرض خليفة” (البقرة:30) ،فسؤالهم لم يكن اعتراضًا على فعله تعالى ولا استنكارًا له، بل كان طلبًا لمعرفة الحكمة الإلهية.
إن السؤال عن رؤية الله في سياقه الأخير يتضمن نوعًا من الإقرار بوجوده عزوجل، فلولم يكن موجودًا لما صحّ أن يُرى. لكن إمكان رؤيته تعالى في الدنيا قد حُسم مع سيدنا موسى عليه السلام، حين أراه الله عجزه البشري أمام التجلى الإلهي، فإذا كان حال موسى عليه السلام أنه صُعق برؤية المتجَّلى عليه (الجبل) فكيف لو رأى المتجِّلي؟! إذن من عظمة الله ورحمته أننا لا نراه. كذلك لو تجّلى الله لنا في الدنيا التى هي دار ابتلاء لما كان لاختبار الإيمان معنى ” ليبلوكم أيّكم أحسن عمًلا” (الملك:2). لكن إذا كان الله سبحانه لم يتجلّى لنا بذاته، فقد تجلّى لنا من خلال آياته المبثوثة في الكون والتى تدلّ على قدرته وحكمته وعظمته.
لقد وضع الله في نفس كل واحدٍ منا دليلًا على وجوده: “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”. يكفينا من أنفسنا في هذا المقام مثال الروح التى هي سر الحياة، نؤمن بوجودها فينا وإن كنا لا نستطيع إدراكها حسيًا، إذا كان هذا حال الروح المخلوقة فما بالنا بالخالق سبحانه؟!. كذلك من رحمته وعدله أن منحنا العقل، تلك الخاصية التي تميزنا عن سائر المخلوقات، والذي به نستطيع معرفته تعالى والاستدلال عليه والبرهنة على وجوده، وقبل هذا وذاك كرّمنا بتلك النفخة الربانية التى توارثناها عن أبينا آدم عليه السلام، إنها نور الفطرة التى فطر الناس عليها، والتي إن صحّت وسلمت عرفت ربها وقدرته حق قدره، وإلا كانت سببًا من أسباب الانحراف الفكري والقلق النفسي والجفاف الروحي.
إن الاستدلال على وجود الله رغم دليل الفطرة إنما هو من باب تعدد الأدلة وتعاضدها لتزداد المعرفة ويقوى اليقين، قال تعالى: ” قد بيّنا الآيات لقوم يوقنون” (البقرة:118)، لننتبه إلى أن الآيات هنا جاءت بصيغة الجمع ومعناها الأدلة، هذا من رحمة الله وعدله، إذ لم يجعل الدليل على وجوده دليًلا واحدًا أو من نوٍع واحد, لأن الناس متفاوتون, كلُ بحسب إدراكه واختياره. هذا الاختلاف الذي هو دليل الاختيار سنة من سنن الله في خلقه، قال تعالى: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين” (هود:118).
إذا كان ذلك كذلك فلا عجب إذن أن نجد علماء الكلام أو العقيدة يجعلون المبحث الأول في كتبهم ” أول واجب على المكلف هو النظر المؤدي الى معرفة الله عزوجل”، إذ معرفة الله هي أصل الاعتقادات وغاية الغايات فمن أجلها كان خلق المخلوقات، والنظر المقصود هنا كما يقول الإمام سيف الدين الآمدي في أبكاره، هو عبارة عن ” تصرف العقل في الأمور السابقة المناسبة للمطلوبات بتأليفٍ وترتيبٍ؛ لتحصيل ما ليس حاصلًا في العقل”، أي إعمال الفكر في المقدمات الموجودة والمسلّمة لدينا، وترتيبها على نحوٍ معين، ليتوصل من خلالها الى نتيجة معينة. فالمعاني السابقة المناسبة للمطلوب, كالمادة للدليل، والتأليف الخاص كالصورة؛ وهو -أي الدليل- مركب منهما أي من المادة والصورة، ولا يصح إلا بصحتهما، وفساده قد يكون بفسادهما، او بفساد أحدهما. هذه المواد التي يتركب منها الدليل (مقدماته) منها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني. والمقدمات القطعية منها البدهيات وهي الأمور التي يصدقها العقل من غير توقف على نظر واستدلال، كالعلم بأن الواحد أقل من اثنين. ومنها المشاهدات وهي كل قضية صدق العقل بها بواسطة الحس، كعلمنا بحرارة النار.كذلك منها المجرّبات وهي كل قضية يصدق العقل بها بواسطة الحس مع التكرار ونوع من النظر، كالعلم بأن دواء كذا مفيد لعلاج كذا….الخ.
إذن الأدلة العقلية لابد لها من مقدمات حسية ننطلق منها، وهذا شأن الأمور العقلية والمباحث النظرية، أما في العقائد الدينية فالأمر يختلف، إذ لابد من إيراد الدليل النقلي الموافق للدليل العقلي، حتى في العقليات المحضة ليثبت أنها مما يُعتقد دينًا، ومن ثم قالوا إن العقائد تقوم على العقل استنادًا وعلى الشرع اعتدادًا. وهناك واحدة من القواعد الحاكمة في هذا الباب -باب إثبات العقائد- ذكرها الإمام أبوحامد الغزالى رحمه الله في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد حيث قال: أن ما لا يُعلم بالضرورة ينقسم الى ما يُعلم بدليل العقل دون الشرع، وما يُعلم بالشرع دون العقل، وما يُعلم بهما معًا”. هذه القاعدة تصلح أيضًا في باب درء التعارض بين العقل والشرع، فلكلٍ إذن مجاله إلا أنهما يتكاملان بغية الوصول الى الغاية الكبرى في هذا الوجود وهي معرفة الله عزوجل والإقرار له بالوحدانية ومن ثم إفراده بالعبودية والتسليم له سبحانه. من أجل هذا كانت نظرة المؤمن أشمل وأعمق من تلك النظرة السطحية التي تقف عند حد مشاهدة المخلوقات، إن المؤمن بنفاذ بصيرته يرى الخالق من خلال خلقه ويدرك المنعم من خلال نعمه التى لا تعد ولا تحصى. إنه يستشعر اسم الله “الباطن” الذي احتجب عن خلقه ابتلاء لهم وامتحانًا لإيمانهم، وإن كان ظاهرًا بالأدلة والآيات لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.