يبحث “دقيق الكلام” -كما يعرف دارسو علم الكلام -في مسائل علمي الفيزياء والكونيات المعاصرين، وقد خاض المتكلمون غمار هذه المسائل الصعبة باستقلال عن بحث الفلاسفة لها خلافا لما يعتقده بعض الناس من كونهم تابعين لفلاسفة اليونان في بحثهم وكون إنتاجهم مجرد تكرار وإعادة تدوير لما قاله الفلاسفة.
هذا الاستقلال البحثي يظهر في مستوى المصادر والمنهج والنتائج، ولا يعني اتفاق الفريقين في بعض النتائج اتفاقهما في منهج البحث ووسائله، ففي حين استمد المتكلمون من القرآن واعتبروه مصدر المعرفة الرئيس عن الكون فبحثوا في الطبيعيات والكونيات في ضوءه وفهموا العالم وفق تمهيده ومحدداته، بحث الفلاسفة في الطبيعة والكون بلا أية قيود أو ضوابط أو محددات مسبقة، لذا فارقت النتائج التي توصل إليها بحث المتكلم تلك التي وصل إليها فلاسفة اليونان أو الهند في كثير من الأحيان.
مثلا : يخبرنا الوحيان – القرآن والسنة – بوضوح أن لهذا الكون نقطة بداية متناهية في الماضي خلقه الله عندها وأوجده فيها من العدم ، هذا التحديد الواضح شكل منهج البحث عند المتكلم وحدد أطره وجعله يرفض أي بحث يمكن أن يؤدي إلى القول بقدم العالم وعدم خلقه من العدم الذي قال به جمع من الفلاسفة قديما، نعم حاول الفلاسفة الإسلاميون كابن سينا وابن رشد التوفيق بين هذا الوضوح القرآني وما قال به الفلاسفة لكن محاولاتهم باءت بالفشل وانتهت إلى إنكار مبادئ عقدية رئيسة بتأويلات غير مقبولة، واستلهم ابن تيمية كذلك مسلمات الفلاسفة ليقارع بها خصومه الأشاعرة مدفوعا بنار الخصومة وأعاد صياغتها وقولبتها وتدويرها متجنبا المصطلح الفلسفي الفج محاولا المزج بين معتقده وفهمه للوحي وبين بعض مسلمات الفلسفة التي رآها خادمة لمشروعه ومعتقده – كما في مسائل الكلام الإلهي والجهة وخلق العالم – ومحاولا في ذات الوقت تجنب موافقتهم فيما انتهوا إليه فأنتج نتاجا مشوها وانتهى قائلا بالمتناقضات من قدم العالم النوعي مع حدوث الأفراد وحوادث لا أول لها ، لكن محاولته هذه لا يمكن أن تدرج ضمن البحث الكلامي المنضبط فليست على شرطنا.
من هذا التأسيس – حدوث العالم – بنى المتكلمون نظرية متكاملة لتفسير الظواهر والأحداث الطبيعية في العالم ، فأعادوا إنتاج مفهومي الجوهر والعرض بما يوافق هذه النظرة وبما يخالف فهم الفلاسفة لهما وفارقوا تماما القول بالهيولى والصورة Hylomorphism وأعادوا فهم كيفية نشوء العالم وامتد أثر ذلك ليؤثر في تفسير الزمان والمكان والضوء والصوت والحرارة والبرودة والروائح والأحداث الفلكية، وأعادوا تفسير وقوع الأحداث الطبيعية في ضوء اعتقادهم بكون الله فاعلا مختارا قادرا على ما أراده واختاره – وفق الاعتقاد الأشعري – فلا يمكن أن تكون قوانين الطبيعة حتمية حاكمة عليه وإلا كان مجبورا غير مختار ومن ثم أعادوا تشكيل مبدأ السببية ليجعلوا المسببات واقعة “عند” وجود أسبابها بإرادة الله وقدرته وفعله وفق العادة الإلهية المطردة التي له مخالفتها متى شاء لا واقعة “بها” معلولة لها أو نتاج طبيعتها التي لا تتخلف – ما عبر لاحقا عنه بحتمية قوانين الطبيعة Causal Determinism – كما كان يعتقده كثير من الفلاسفة وكما شاع زمنا طويلا بين علماء العلوم الطبيعية قبل أن تخبو ناره ويخفت صوت القائلين به في النصف الثاني من القرن العشرين مع ظهور “اللاحتمية”.