الحمد لله.
أشار الشيخ إسماعيل حقي البروسوي في تفسيره لقوله تعالى {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} إلى أن الحرية على مراتب ثلاثة: حرية صغرى، وحرية وسطى، وحرية كبرى. قال رحمه الله في «روح البيان»: «ويحتمل أن يكون المراد بفك الرقبة أن يفك المرء رقبة نفسه من عذاب الله بأن يشتغل بالأعمال الصالحة حتى يصير بها إلى الجنة ويتخلص من النار، وهى الحرية الوسطى؛ وأن يفك رقبة القلب من أسر النفس وقيد الهوى وتعلق السوى، وهى الحرية الكبرى». ولم يذكر الحرية الصغرى اكتفاءًا بالسياق للدلالة عليها. فالصغرى هي فك المرء رقبة قالبه (جسمه) من أسر البيع والشراء في أسواق العبيد.
ويفيدنا كلام البروسوي رحمه الله أن مستويات الحرية الثلاثة مرتبطة بالوجود الإنساني بمراتبه الثلاثة. فالإنسان جسد، وهو الهيكل الجسماني؛ ونفس، وهي الواسطة بين الجسد والروح؛ وروح، وهي النفخة الإلهية التي اختص الله تعالى بها الإنسان دون غيره من الكائنات. فحرية الجسد هي الحرية الصغرى، وحرية النفس هي الحرية الوسطى، وحرية الروح هي الحرية الكبرى.
ويفيدنا كلامه أيضًا أن الكلام في مفهوم الحرية يتوقف على فهمنا لحقيقة الإنسانية، بل كلما كان فهمنا لكل مرتبة من مراتب الإنسانية أعمق كان فهمنا لكل مستوى من مستويات الحرية أعمق. فمَن قصر مفهوم الإنسان على الظاهر المادي المحسوس، اقتصر كلامه في الحرية واقتصر سعيه في تحقيقها على هذا المجال دون غيره. ومَن لا يتعمق في آثار التكنولوجيا الحديثة على سلوكيات الإنسان – كأثر تطبيقات السوشيال ميديا مثلًا على كيمياء المخ – لا يرى أن لها أثرًا على حرية الإنسان الجسدية. وأما مَن ترقى في مفهوم إنسانيته إلى ما وراء هذا الهيكل الظاهر، لم يكن سعيه في الحرية مقتصرًا على تحرير رقبة نفسه ورقاب غيره من الاتجار في البشر وكفى، وإنما سعى كذلك في تحرير نفسه ونفسوهم، وتحرير روحه وأرواحهم، من أسر الإفساد والتدمير، ومن أسر الحظوظ والأهواء. ومن هنا يفهم قولهم: «مَن عرف نفسه عرف ربه». فمَن عرف نفسه بقيودها عرف ربه بتحريرها منها، ومَن عرف كل مرتبة من مراتب ذاته عرف تحرير ربِّه لها من قيود كل مرتبة.
وهذا الفكر الذي استخلصناه من الكلمات القليلة للشيخ إسماعيل البروسوي رحمه الله ليس بمعزل عن الموروث عن أئمة الإسلام في أبواب الإحسان وتزكية النفس، فإنهم قد أفردوا لهذه المعانى بابًا خاصًّا بها، كما عند الإمام القشيري في «رسالته»، فقد وضع فيها بابًا بعنوان: «باب الحرية»، وجمع تحته مجموعة من النصوص والروايات المتعلقة بمفهوم الحرية. وافتتح القشيري هذا الباب بتعريفه الحرية فقال: «الحرية أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات، ولا يجري عليه سلطان المكوَّنات». وليس يعني القشيري بكلامه هذا مفهوم الحرية المطلقة الذي يتمثل لدى البعض في صورة الجسد العاري مثلًا، فإن الدلالة على الحرية في رمزية الجسد العاري دلالة مزيفة، لأن صاحبها لم يتحرر من عين المخاطب بتلك الرمزية ونظره ووعيه، بل لولا نظره ووعيه لم يكن ثمة دلالة لتلك الرمزية البتة!
فالحرية الحقيقية من رق المخلوقات هي الخلاص من الالتفات إليهم بالقلب وليس بمجرد القالب، بل إن الحرية الحقيقية التامة هي الخلاص الكامل من حظوظ النفس (الأنا/Ego)، ولو في الواجبات الدينية والطاعات الإيمانية. وقد عبَّر الإمام القشيري رحمه الله عن هذا المعنى فقال: «الذي أشار إليه القوم من الحرية هو أَن لا يكون العبد بقلبه تحت رق شيء من المخلوقات، لا من أعراض الدنيا، ولا من أعراض الآخرة، فيكون فردًا لفرد، لم يسترقه عاجل دنيا، ولا حاصل هوى، ولا آجل منى، ولا سؤال، ولا قصد، ولا أرب، ولا حظ». والمعنى أن لا يكون المؤمن أسير مخلوق من المخلوقات، ومن جملة المخلوقات التي خلقها الله تعالى الأطماع والأغراض. فلا يكون المؤمن أسير غرض، حتى وإن كان الغرض أخروي، كالجنة ونعيمها. وليس يعني هذا أن يتخلى المؤمن عن طلب النعيم المقيم في الآخرة، ولكن شتَّان بين مَن يطلب الله لأجل الجنة ومَن يطلب الجنة لأجل الله! فالحق سبحانه هو منتهى الرجاء وغاية الأمل، والجنة وسيلة من وسائل القرب منه جل وعلا، فمن جعل الوسيلة غاية، فقد ضل الطريق وابتعد عن الهداية. والحرية الحقيقية لا تتأتى إلا لمن جعل الحق سبحانه مقصوده ورضاه مطلوبه. والغفلة عن هذه المعاني من أسباب ظهور الأنا عند بعض المتعبدين، لأن عباداتهم انقلبت إلى مقايضة مع الخالق والعياذ بالله، يعاملون ربهم بالـ«خذ وهات»، فصارت العبادات وقودًا لحظوظهم النفسية. والعادة المضطردة تشهد بولادة العُجب والكِبر في قلب مَن جعل العبادات وثوابها غاية في ذاتها.
ثم إن تلك العبادات إنما شرعت في الأساس لتحرير الإنسان من استفزاز الشهوة واستهواء الغضب؛ والتكاليف الشرعية في حقيقتها تحرير للإنسان من الأنا. فاستقبالنا للقبلة تحرير للروح من ظلمات الالتفات إلى الكائنات. تكبيرة الإحرام تحرير للروح من قيود حظوظ النفس. فقولنا (الله أكبر) أي: الله أكبر وأعظم وأجل من شهواتنا المادية، ومن شهواتنا المعنوية، ومن أنانا، ومن كل ما سواه، حتى من طاعاتنا وقرباتنا التي نتقرب بها إليه. الطمأنينة في كل حركة من حركات الصلاة تحرير للروح من أسر التشويش والصخب. وهكذا سائر التكاليف إذا تأملها الصادق، مؤمن كان أو غير مؤمن، ظهرت له منها معاني الحرية، وإن كان للمؤمن مزيد علم لما معه من نور الإيمان. ولكن عادة الله تعالى جارية بهطول أمطار الفهم على مَن استمطر سحب المعرفة بالصدق. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الصدق في العبودية المرفوعين إلى مقام الحرية، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ففي ضوء ما ذكر إذا أمعن المرء في مفهوم الحرية المطلقة الذي ينادي بها البعض شرقًا وغربًا لعَلِم أن تلك الحرية المزعومة ما خرجت عن رق القيود، بل ما يقدَّم لنا ظاهرًا على أنه سعي في تحرير الإنسان من أغلال الإيمان، هو في باطنه هروب من الحرية الكبرى التي تبدأ من الإيمان، لإن في الإيمان بالله تعالى الخلاص من جميع القيود، خصوصًا تلك القيود التي تفرضها أنا الإنسان على ذاته. فالمؤمن يستسلم لربه سبحانه كاستسلام المقيَّد بسلاسل الحديد لمن يحركه يمنة ويسرة لفك قيده وتحريره من الأسر. وهنا يعود آخر كلامنا إلى أوله، وهو أن فهم الحرية مرتبط بفهم الإنسان، فمَن جعل إنسانيته مجرد آلة بيولوجية لم ينَل من الحرية إلا على قدر ما عرفه من بشريته.
والحمد لله رب العالمين.