الحمد لله،
كانت أول محاضرة حضَرتها في حياتي الجامعية أثناء دراسة البكالريوس محاضرةً في مادة بعنوان «التفكير الفلسفي». لم أكن وقتها أعرف ما معنى كلمة فلسفة، وكان الأستاذ المدرِّس للمادة أمريكيًا ولم أكن قبلها قد درست مع أي أستاذ غير مصريٍّ من قبل. وأنا بطبيعتي أخاف من الآخر أو المجهول وكنت في هذا الموقف أمام مجهولات ثلاث: الفلسفة، والأستاذ الجامعي، وكون هذا الأستاذ الجامعي أمريكيًا.
جلست في الصف الأخير والتزمت الصمت حتى رفع أحد الطلاب يده وقال: يا أستاذ، أنا أدرس هذه المادة للمرة الثانية وما زلت لا أعرف، ما هي الفلسفة؟ وكان رد الأستاذ هو التعريف بالمعنى اللغوي للكلمة المركبة من كلمتين يوانيتي الأصل: فيلو، وسوفيا. وفيلو هي كلمة بمعنى المحبة، وسوفيا هي كلمة بمعنى الحكمة.
بالجمع بين الكلمتين ندرك أن الفلسفة هي محبة الحكمة أو السعي تجاهها، وهي –أي محبة الحكمة والسعي تجاهها- أمور شريفة مطلوبة.. لكن ليست لذاتها، بل هي مطلوبة للحكمة. فهذا النوع من السعي نُسب إليه الشرف لكونه سعيًا نحو الحكمة لا لمطلق كونه سعيًا.
كانت هذه هي المادة الوحيدة التي درستها في الفلسفة أثناء البكالريوس، وكنت ممن يعتقدون أن الفلسفة أمرٌ لا حاجة إليه. ثم مرت الأيام وشاء الله تعالى أن أدرس الماجيستير في الفلسفة في نفس الجامعة، ويسأل طالب الأستاذ سؤالًا عن الفلسفة يعيد إلى الذهن التفكر في تعريف الفلسفة على أنها محبة للحكمة أو سعي نحوها. سئل الأستاذ عن الفلسفة الإسلامية فقال أنه يرى أن كلمة الفلسفة الإسلامية فيها تناقض. لأن الفلسفة تطرح الأسئلة بينما الدين يقدم إجابات عنها.
وفي سياق آخر، أثناء القراءة في كتاب «مدخل إلى الميتافيزيقا» للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر والذي يطرح فيه أسئلة جول حقيقة الوجود، نبه الأستاذ نفسه الذي كان حينها رئيس قسم الفلسفة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة أن أفلاطون كان يشعر بالخجل والحيرة تجاه فهمه لتعبير «الوجود». فقد قال أفلاطون أننا في الماضي كنا نظن أننا نفهمه لكننا الآن أصبحنا حائرين. فهل هذه الحيرة هي التي تجعل الفلاسفة طالبين للحكمة بدلًا من أن يكونوا حكماء؟
يقول الفيلسوف الفرنسي رينيه غينو أن هذه الحيرة لا تواجه الأديان الأصيلة لأنها تدعي أنها تمتلك الحكمة. فبالنسبة إليهم، حقائق مثل الوجود هي أمور لا يدركها العقل بل هي أمور من عالمٍ علوي لا تعرف إلا بطريق الوحي. لذلك، سيظل الباحثون عن هذه الحقائق من غير طريقها حائرين تائهين. وغينو هو فيلسوف فرنسي تشبع بالتراث الفلسفي الغربي القديم والحديث ولم يجد فيه ضالته، فاتجه نحو الأديان والمعارف الشرقية ودرسها بطريقها لا بطريق الاستشراق، وكتب كتابه «المدخل إلى دراسة العقائد الهندوسية» منتقدًا فيه المحاولات الاستشراقية لفهم هذه العقائد من المنظور المعرفي الاستشراقي الضيق الذي أنكر الوسائل المعرفية الشرقية لمجرد جهله بها وظنه أنه أرقى منها. وفي المقولة الشهيرة: «المرء عدو ما يجهل». وغينو بعد أن جمع بين دراسته للفلسفة الغربية في بلادها وعلى طريقتها ثم درس العقائد الشرقية، انتهى به المطاف في الإسلام بعد أن قرأ كتابات الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي وانتقل إلى مصر وأسس فيها مجلة «المعرفة» التي كانت تصدر في بداية ثلاثينيات القرن العشرين. ومن أراد أن يعرف أكثر عن غينو فليقرأ الفصل المخصص له في كتاب الشيخ عبد الحليم محمود: «قضية التصوف: المدرسة الشاذلية».
والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي أثَّر في غينو كان له رأي في فلاسفة اليونان وهو أن علومهم مكتسبة في الأصل من سيدنا إدريس عليه السلام ولكنهم أخطأوا في نقل ما جاء عنه ونظروا في الغيبيات بعقولهم المجردة وأن خطأ النظر العقلي في هذه الأمور أكثر من صوابه. (وهذا لا يعني أن العقل لا يعتد به في المسائل الدينية، بل هو ضروري للتوصل إلى أن الدين حقيقي وضروري كذلك لفهم وتفسير الدين. لكن كلام الشيخ الأكبر عن الأمور التي لا يستقل العقل بالتوصل إليها لكنه يقرها ولا يجد تعارضًا بينها وبينه. فالعقل آلة وليست جميع الآلات صالحة لجميع الأغراض مثل المسموعات لا تدرك بالأعين. ولعل الله ييسر كتابة تدوينة أخرى في بسط هذا الأمر المتعلق بالدين والمعرفة والعقل.)
فالفلسفة تطرح العديد من الأسئلة عن أمور هي عاجزة عن الإجابة عنها، مثل سؤال الوجود الذي ذكره أفلاطون وما زال يسأل إلى يومنا هذا. والدين يقدم إجابات عن مثل هذه الأسئلة، ومن نظر في إجابات جميع الأديان سيجد تقاربًا شديدًا في العقائد الأساسية مثل وجود مصدر أو مبدأ أول ومراتب الوجود وكيفية الوصول إلى هذا المصدر أو هذا المبدأ سواء سموه إلهًا أو وجودًا أو غير ذلك. وبكيفية الوصول المقصودة التي هي الطرق الخاصة والشرائع المختلفة تتفاوت الأديان، ويستدل بمدى عقلانية تفاصيل العقائد والشرائع للعقل الإنساني على بقاء هذا الدين على صورته الأساسية دون تبديل أو تحريف كما حصل عند الفلاسفة الذين ذكرهم ابن عربي أو في الأديان الأخرى. ونحن كمسلمين نمتلك أدلة على صحة ديننا، وكذلك على مخالفة الأديان الأخرى للعقل أو على عدم امتلاكها لدليل عقلي صحيح على أن تفاصيل عقائدها وشرائعها هي وحي من عند الله عز وجل. ونرى أن الدين هو الطريق الموصل إلى معرفة الله سبحانه وتعالى المطلوبة لذاتها والتي بدونها لا تفهم حقيقة هذا الوجود المحيط بنا على ما هو به في الواقع.
والحاصل أن معرفة الإله ومراتب الوجود وكيفية الوصول إليه مطلوبة لذاتها، ويستحق العارف بها اسم الحكيم لا محب الحكمة أو الساعي تجاهها. ولعل كون أشعار جلال الدين الرومي والذي كان عالماً شرعياً وشيخاً صوفياً هي الأشعار الأكثر مبيعاً في أمريكا عام 2007 يشهد للمعنى الذي أشير إليه. فهذا الشعب الذي لا يظهر في سلوكه التدين لم يكن ليقبل على تلك القصائد مع كونها مترجمة لو لم يجد فيها ضالة كان يبحث عنها. {يُؤْتِي الْحِكْمَةَمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}.
فهذه هي العلاقة التي أراها بين الدين والفلسفة والله أعلم.
اللهم افتح علينا حكمتك، وانشر علينا رحمتك، يا ذا الجلال والإكرام