“بدأت الديانات الإبراهيمية الثلاث كرفض جرئ للظلم والعنف البنيوي”.
(حقول الدم وتاريخ العنف)
تتعدد صور الاعتداء المختلفة، لكن أبرزها هي الحروب، ومؤخرا نشأ مصطلح الإرهاب وشاع استخدامه، وهو ما تعرفه الاتفاقية الدولية لمنع تمويل الإرهاب بالتالي: “أي عمل يهدف إلى التسبب في موت شخص مدني أو أي شخص آخر أو إصابته بجروح بدنية جسيمة عندما يكون هذا الشخص غير مشترك في أعمال عدائية في حالة نشوب نزاع مسلح وعندما يكون غرض هذا العمل بحكم طبيعته أو في سياقه موجهًا لترويع السكان أو لإرغام حكومة أو منظمة دولية على القيام بأي عمل أو الامتناع عن القيام به”، وأضافت الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة: “أعمال إجرامية يقصد أو يراد بها إشاعة حالة من الرعب بين عامة الناس أو جماعة من الأشخاص أو أشخاص معينين لأغراض سياسية”([1]).
وارتبط المصطلح بالدين، فعند كل هجوم (إرهابي) جديد توجه الاتهامات عادة إلى الدين، وتحديدا الإسلام، من قبل حتى معرفة ديانة/ أو عدم ديانة منفذي الهجوم!
قد يُظن أن بداية هذا الارتباط بين الدين والاعتداء نشأ بعد هجمات (الحادي عشر من سبتمبر/ آيلول)، نعم زاد الربط زيادة ملحوظة بعد هذه الهجمات، لكن البداية كانت أبعد قليلا..
منذ بدأ الوجود البشري ظهر العنف في المشهد، بداية من حكاية قابيل وهابيل، إلى يومنا هذا مرورا بكل الحروب والصراعات الدموية على مر التاريخ لمختلف الأغراض، لكن الحاجة للفصل بين الدين وسائر شؤون الحياة ومن ثم إمكانية توجيه أصابع الاتهام إلى الدين بصفته الباعث على الاعتداءات العنيفة مستقلا بدأ بعد تاريخ دموي طويل مرت به أوروبا فيما يُعرف بحرب الثلاثين عاما والتي راح ضحيتها أكثر من 7 ملايين([2])، وهي الحرب التي استمرت “بين عامي 1618 و1648 وحدثت وقائعها بشكل عام في أراضي ألمانيا وتدخل فيها معظم القوى الأوروبية الموجودة في ذلك العصر، وبالرغم من أن اندلاع الحرب كان أساسا بسبب صراع ديني بين الكاثوليك والبروتستانت إلا أن التنافس بين أسرة هابسبوررك والقوى المركزية الأخرى في أوروبا على حكم الدول الأوروبية كان محركا ومشعلا أساسيا لفتنة هذه الحرب، بل ويُعد السبب الرئيسي في نظر الكثيرين؛ ففرنسا الكاثوليكية في ذاك الوقت ساندت الجانب البروتستانتي في الحرب بسبب تنافس كل من فرنسا وآل هابسبورج على الحكم”([3]).
ولتحديد إذا ما كان الدين عموما والدين الإسلامي على التحديد هو المسؤول حقا عن كل هذه الحروب والدماء و(الإرهاب) توجد أكثر من طريقة، فإما نتجه لطريقة التعريفات لفهم ما هو الدين حقا وما هو العنف وما الاعتداء وما الإسلام وما الإرهاب، أو طريقة الحديث في موضوع الدين والعنف والاعتداء والإرهاب والإسلام، وسنختار دمج الطريقتين معا لقراءة مباشرة مختصرة وبسيطة.
وربما يدور في ذهنك عزيزي القارئ سؤال ما أهمية التعريف؟
ألا يخبرنا التاريخ أن الحروب الصليبية كانت حروب دينية؟ والهجمات الإرهابية تُنفذ باسم الدين؟
إذن الدين هو المسؤول!
لكن التاريخ يخبرنا أيضا أن الدين لم يكن هو الباعث على الحرب العالمية الأولى أو الثانية، أو حقول الدم التي سفكها الاتحاد السوفيتي أثناء حكمه، فليس السرد التاريخي هو الحكم فقط بغير تحليله وتفكيكه، حتى إن سلمنا بإمكانية الفصل التام بين ما هو ديني وما هو غير ديني على مر التاريخ.
في كتاب “أسطورة العنف الديني” يبين وليام كافانو غياب وجود تعريف واضح للدين عند أكثر من نظَر لارتباط الاعتداءات العنيفة بالدين، ما هو الدين الذي يرتبط بالاعتداءات العنيفة؟ وهل يوجد جوهر منفصل للدين يصلح لكل زمان ومكان بحيث تصح نسبة العنف إليه هو فقط؟
كيف يمكن الفصل بين العنف الذي يسببه الدين وبين العنف الذي تتسبب به العلمانية؟
فهل يمكن عد القومية دينا مثلا؟
بعض المفكرين مثلا يعدون القومية هي الدين الأقوى في أمريكا..
فالمشكل الأول في الدين عند من يربط الدين بالعنف ويفسره بلوازمه ووظائفه هو نزعته الإطلاقية في امتلاك الحقيقة، وغياب مفهوم التفاوض والتنازل ما دامت الحقيقة مطلقة، وهو الأمر ذاته التي تتبناه الدولة القومية الحديثة، فجورج بوش استدعى ثنائية الخير والشر في حربه، وادعى أن الديمقراطية الليبرالية هي الخير المطلق، فخرج من إطلاقية الدين إلى إطلاقية القومية([4]).
والمشكل الثاني هو الطاعة العمياء، وهو المفهوم ذاته الذي ينطبق -بكل تأكيد- على الجيوش النظامية للدول الحديثة، فيجب على الجنود الامتثال للأوامر بغير نقاش، وهي طاعة عمياء لخدمة عنف الدولة!
أما الثالث فهو الغاية المقدسة ومجددا لا تختلف الدولة القومية عن ما ينسبونه للدين في شيء، فالجيش الأمريكي أطلق على حربه في أفغانستان في البداية اسم “عملية العدالة المطلقة”([5]).
والرابع يكمن في سطوة الرمز، وهو ما توفره الدولة القومية من خلال العَلم والأنصبة التذكارية، فالدين يعتمد على الرمز والشعائر والمراسم وما تتسم بها من مشاعر قوية تربط أفراده به، وكذلك تفعل الحكومات والسياسات.
فيقول كافانو: “إن العلم هو الرمز القومي للإيمان، وهو الموضوع المركزي للعبادة، وله أشكال طقوسية مميزة من طريقة رفع الأيدي لتحيته ورفع الرؤوس وخفضها، وكتابة الأشعار والقصائد في مديحه بأصوات كأصوات الكهنة في الكنائس”([6]).
ويقول عزمي بشارة: “في القومية والوطنية والحروب لابد من وجود العنصر الانفعالي بالمقدس.. وفي غياب الدين تنشأ شعائر تؤدي الوظيفة نفسها في إثارة الشعور بالمقدس، مثل الاستعراضات العسكرية، وموسيقى المارشات، ومراسم دفن الشهداء.. إلخ”([7]).
بهذه الطريقة في التعريف من غياب المفهوم الواضح للدين، ثم تعريفه بلوازمه ووظائفه وعلاماته فلا فارق بين الحروب التي يُنشئها الدين وبين الحروب التي تُنشئها الدولة القومية، فما معنى نسبة العنف للدين إذن؟
والسؤال الثاني هل يمكن الفصل بين الدين وما هو غير ديني على مر التاريخ دائما؟
ليس السؤال هنا على مرحلة الحداثة وما بعدها، فواضح أن الحداثة أخرجت حيز العلماني إلى الوجود وحدث الفصل على عدة مستويات، لكن مرحلة ما قبل الحداثة لم يكن هذا التفريق بين الحيز الديني والحيز غير الديني موجودا، ولكي تصح الدعوة التي تقول أن الدين هو السبب الأكبر في العنف على مر التاريخ، يجب أن يكون هناك فرق بين الدين وما هو غير الدين على مر التاريخ، وهذا الفرق لم يظهر إلا مع مرحلة الحداثة، فنعم بعض الحروب ارتبطت بالدين، وبعضها لم يرتبط بالدين، لكن لكي تصح نسبة العنف للدين دائما يجب أن يكون الفصل بين الديني وغير الديني مطردا، أي ممكنا دائما.
ولو تكلمنا بلغة الأرقام فالحرب العالمية أودت بحياة حوالي 15 مليونا([8])، والحرب العالمية الثانية بلغ عدد ضحاياها من 60-80 مليون إنسان([9])!
أما النظام الشيوعي المناهض للدين فرقم ضحاياه ضخم للغاية، ما يزيد عن 60 مليونا([10])!
هذا بخلاف ضحايا الثورة الفرنسية (بوابة التنوير) التي اشتهرت بدمويتها وعنفها وراح ضحيتها حوالي 40000([11])، والتي كان من ضمن أسبابها رفض الدين والتنكيل برموزه.
بلغة الأرقام فالقرن العشرين هو القرن الأكثر دماء على مر التاريخ، ولم يكن السبب دينيا، وبلغة المفكرين لم تختلف العلمانية عن توظيف الدين في التسبب في العنف والاعتداء على الآخر، لماذا إذن تُلصق تهمة الإرهاب للإسلام؟
هذا ما سنستكمل الحديث حوله في المقال التالي..
__________________________________________________________
[1] https://ar.guide-humanitarian-law.org/content/article/5/rhb/
[2] http://necrometrics.com/pre1700a.htm#30YrW
[3] http://bit.ly/2LHYqo3
[4] أسطورة العنف الديني، وليام كافانو، الشبكة العربية، ص 39.
[5] المرجع السابق نفسه، ص53.
[6] المرجع السابق نفسه، ص 187.
[7] الدين والعلمانية في سياق تاريخي، عزمي بشارة، ج1، ط3، ص26 بتصرف يسير.
[8] http://necrometrics.com/20c5m.htm#WW1
[9] http://necrometrics.com/ww2stats.htm
[10] http://necrometrics.com/20c5m.htm#Stalin
[11] http://necrometrics.com/wars18c.htm#FrRev1