ندى عبد السلام
طالبة ماجستير الفلسفة بجامعة LMU Munich
الإنسان – حال تأمله لهذا الكون من حوله – يدرك أنه يتبع منهجية منسقة وقوانين محكمة تخضع في مجملها إلى قاعدة كلية تمكنه – أي الكون – من الحفاظ على اعتدال ظواهره المتعارضة، هذه القاعدة تسمى قاعدة “التوازن”[1] .
قد يبدو هذا الكلام بديهيا لهيمنة هذه الظاهرة على شتى أركان الحياة، فالإنسان لا يستطيع تخيل الوجود من دونها، إذ على أسسها تقوم العلوم الحسية كلها من فيزياء وأحياء وعلوم بيئية وتقوم عليها أيضا العلوم غير المحسوسة كالاقتصاد وعلوم الاجتماع والعلوم الإنسانية-هي تحاوطنا في كل مكان، ذلك ببساطة لأن فاطر هذا الكون لم يجعل قوانينه عبثية وإنما أودع فيه سنة التوازن، وقياسا على هذا فإن الطبيعة أيضا تخضع إلى قاعدة التوازن، الأمر المؤكد في قوله عز وجل:
}وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ{ (سورة الحجر 19)
ومثلما فطر الله الكون على هذه القاعدة لم يستثنِ منها خلق الإنسان -فجعله كبقية الكائنات مخلوق يقوم على التوازن- وتوازنه هذا ليس مقتصرا على توازنه الخارجي المادي فحسب (وهو توازن حالته الجسمانية والبيولوجية) وإنما يشمل أيضا شقه النفسي والروحي الذى يقوم هو الآخر على نفس الأساس. وقد أدركت هذا جميع الحضارات وأشار إليه العديد من الفلاسفة- أشهرهم أرسطو – الذى وضع أسس “الوسطية الأرسطية“، والتى تنص على أن الفضائل تكمن في “الوسطية” بين طرفي الإفراط والتفريط، ففضيلة “الشجاعة” على سبيل المثال نجد أنها تقع بين طرفي التهور والجبن، وفضيلة الكرم تقع بين البخل والإسراف وفضيلة الطموح بين الكسل والجشع وهكذا.
ولكن الداعي إلى الاعتبار والتدبر هنا هو أن هناك فارق جذري بين الإنسان وبقية الكون من حوله، حيث إنه بالرغم من خضوع كليهما لنفس القاعدة إلا أن الإنسان -على عكس بقية الكون-هو المخلوق الوحيد الذي خصه الله بمقدرة الإخلال بتلك القاعدة. فالكون كله مفطور على اتباع التوازن دون سبق إرادة، الأمر المؤكد في التصريح الإلهي: }ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ{ (سورة فصلت 11). أما الإنسان فهو المخلوق الوحيد الذي يملك حرية الاختيار التي بدورها تمكنه من الإخلال بقاعدة التوازن الداخلي التي أودعها الله فيه.
ولكن -سبحان الله -حتى هذه المسألة لم تخلُ من توازن، إذ أن الله قد أعطاه في مقابل تلك الحرية ميزانا آخر يستطيع من خلاله أن يقيم هذا التوازن بنفسه – وكأنه بدّل سبحانه وتعالى الميزان التلقائي الذى يتمتع به بقية الكون بميزان “يدوي”، هذا الميزان هو العقل – وكلمة “العقل” في الأصل مشتقة من الفعل “عَقَل” أى “رَبَط”- لأن العقل هو الذى يربط الإنسان ويمنعه عن اتباع شهواته ورغباته التي أصبح بإمكانه أن يخل بتوازنه وتوازن الكون حوله من أجلها.
ولكن هذا الميزان “سلاح ذو حدين”-وكلمة سلاح هنا ليست مجازية لأن العقل يمكن أن يتحول فعليا إلى سلاح يخرب ويفسد في الأرض. ومن هنا نفهم استنكار الملائكة لمراد الله تعالى عندما أخبرهم بأنه سيجعل له خليفة في الأرض: }قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء{(سورة البقرة آية 30)، يُفهم من هذا أنهم كانوا يعلمون بأن إيجاد مخلوق على الأرض بحرية اختيار ستودى به إلى إفسادها والإخلال بنظامها، ولكنه سبحانه وتعالى رد عليهم وقال }إني أعلم ما لا تعلمون{ (سورة البقرة آية 30)، لأنه الله سبحانه وتعالى -خالق الإنسان وخالق عقله- يعلم جيدا أن هذه الآلة الحساسة مثلما يمكن أن تكون سبب دمار الأرض يمكن أيضا أن تجعل الإنسان مهيأ لأن يكون خليفة الله فيها إذا استخدمت بالطريقة السليمة والمنهج المرجو لها.
ولهذا فإن وجود ميزان العقل وحده ليس كافيا للإنسان حتى يحفظ التوازن، فهو يحتاج إلى منظومة من خلالها وعلى أساسها يتصرف، لذا فإن الله لم يترك الإنسان وحده يدبر أمره على الأرض بنفسه دون أن يخاطبه وإنما بعث له عبر العصور تشريعات مفصلة تبين له الطريقة الصحيحة التي ارتضاها لمعيشة الإنسان في هذا الكون، وبعث خاتمة رسالاته مع سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذى بعثه الله “رحمة للعالمين” ليتم للإنسان دينه وأخلاقه ويعلمنا من خلالها دور الإنسان الحقيقي على الأرض الذى يقوم على (1) عبادة الله (2) وعمارة الأرض (3) وتزكية النفس- حتى يتمكن الإنسان من أن يكون حقاً خليفة الله على الأرض، وهذا الأمر لا يتأتى إلا من خلال انسجام الإنسان مع حركة الكون والسير على الطريقة التي تتماشى مع قواعده، لذلك كانت أحد مقاصد هذا الدين حفظ التوازن، فهو سبحانه وتعالى يعلمنا طريقة العيش الموزونة من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي هي خير تجسيد لهذا القرآن (صلّى الله عليه وسلم كان –مثلما وصفته السيدة عائشة “خلقه القرآن”). وفى هذا القرآن الشامل يخبرنا عز وجل بأنه فطر الكون على التوازن ويأمرنا بحفظه وعدم الإخلال به:
} وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ* أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ*وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ{ (سورة الرحمن آية 7-9 )
فالطبيعة في الأصل محل اختبار للإنسان -والمحافظة على توازنها مظهر من مظاهر الخلافة، إذا اختار سنة الله ونهجه، انسجم مع حركة الكون واستطاع أن يكون خليفة الله على الأرض حقا، يأمر بالعدل والمعروف ويقوم على تطوير الأرض وتعميرها ويحفظ مواردها ويلجم شهواته عن الإخلال بتوازنها، وإذا انتهج غير ذلك سبيلا ظهر الخلل في الكون وكان الفساد نتيجة تابعة، وهذا ما هو مؤكد في قوله تعالى }ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس{ (سورة الروم آية 41). فالإنسان –حتى إذا رفض أن يحافظ بعقله على توازن الوجود- لن يستطيع أن يمحو حقيقة وجوده من الكون.
[1] جهاد هاشم براون، “الأبعاد الميتافيزيقية للوعي البيئي الإسلامى”، مؤسسة طابة (2013)