د هاني حسين
طبيب بشري، وباحث في علم الكلام والفلسفة الإسلامية.
تعلمنا عند مشايخنا في علم الكلام الأشعري أن الكون – نظرًا لتغيره المحسوس باستمرار – حادثٌ (أي: لوجوده بداية) خَلقَهُ صانعٌ قديم (أي: لا بداية لوجوده) بقدرته وفق إرادته وعلمه. قبل وجود الكون لم يكن ثمة شيء إلا ذلك الصانع الذي لولا وجوده ما كان لهذا الكون أن يوجد؛ لأن المعدوم لا يمكنه أن يُخرج نفسه من العدم إلى الوجود حال كونه معدومًا، ومن ثمَّ أطلقوا على الصانع “واجب الوجود” أي الذي لا يتصور العقل عدمه!
استدل مشايخنا على ذلك بدلائل عقلية: فلو افترضنا أن العالم لم يخلقه الله فإما أن يكون قد خلق نفسه أو يكون قد وجد منذ الأزل دون خالق بحيث يسبق كل حدث فيه حدث آخر في سلسلة من الأحداث تمتد إلى ما لا نهاية في الماضي، والفرض الأول – ويسمونه: «الدور» – مستحيل عقلا لاستحالة أن يكون الشيء علة لوجود نفسه فيسبق وجوده ويتأخر عنه في آن، والفرض الثاني – ويسمونه: «التسلسل» – أي أن تتوالى الحوادث لا إلى نهاية في الماضي مستحيل عقلا كذلك؛ لأنه لا يعقل حادث دون وجود بداية له حدث عندها بعد أن لم يكن موجودا فلا بد من وجود بداية لم يكن قبلها الحادث موجودا ولا بد من انقطاع السلسلة بواجب وجود (الله سبحانه) لا بداية لوجوده ولا يحتاج من يخلقه ليكون هو من خلق الكون، فالفرضان مستحيلان عقلًا ولذا قالوا لنا إن العقل قد دل على ما دلت عليه نصوص الشرع إذ منع الله التسلسل والدور في قوله تعالى ﴿أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون﴾.
لكن لقرون عدة فضّل الملاحدة من علماء الطبيعة وأنصار المادية الترويج لنموذج أرسطوطاليس – أو نموذج قريب منه – الذي يفترض كونا أزليا أبديا لا بداية له ولا نهاية على أنه النموذج «العلمي» الأفضل والأصح، وهذا بالطبع لأن هذا النموذج يوفر عليهم عناء الإجابة عن سؤال: من خلق الكون؟ إذ الأزلي – ما لا بداية لوجوده – لا يحتاج من يخلقه ويوجده من العدم، هذا بالرغم من كون أرسطوطاليس نفسه مؤمنًا بإله قديم «محرِّك أول Prime mover» هو علة للكون تخلق منه بلا اختيار أو التفات منه إليه؛ بل وجد الكون أزلا مقارنا لوجوده حتى يتخلص من إشكالية القول بأزلية الكون مع اعتقاده بالصانع.
ثم توالت الأبحاث والنظريات والكشوف العلمية لتؤكد عدم أزلية الكون وبدءه من نقطة لم يكن قبلها ثمة وجود لشيء، بمعنى «خلقه من العدم» الذي يعني حدوثه كما علمنا المشايخ في درس الكلام، وصارت نظرية «الانفجار العظيم Big Bang» التي تؤكدها الكثير من المشاهدات والتجارب هي النظرية المسيطرة والمقبولة علميًا وعالميًا وثبت بطلان نظرية الكون الازلي الأرسطي.
أوقع هذا التحول الملاحدة في حرج شديد، إذ أن السؤال التالي لقبول بداية الكون من العدم هو: «كيف خرج الكون من العدم ومَن أوجده؟»، وهذا لأن العقل يرفض أن يُوجِد الشيء نفسه، وقد ثبت أن له بداية، فالتسلسل في الماضي مرفوض ابتداءًا!
اختار بعض الملاحدة الهرب من السؤال المنطقي «من خلق العالم؟» بأن جواب هذا السؤال ليس من اختصاص العلم التجريبي وإنما الفلسفة وبالتالي لا يهمهم كثيرا بحثه. لكن هذا الجواب لم يقنع أحدًا ولا حتى من قاله وظلت هذه الإشكالية تؤرق الملاحدة جدًا وتنغص عليهم احتفالهم بالعلم التجريبي حتى قال رتشارد دوكنز: «لقد تمكنا في البيولوجي (علم الأحياء) من طرد الإله والتخلص منه تمامًا بواسطة التطور، لكن يبدو أن الفيزياء لا تستطيع ذلك حتى الآن».
ثم فجأة في عام 2010 ظهرت موجة من الاحتفاء والابتهاج وسط الملاحدة بظهور كتاب ستيفن هاوكنج «التصميم العظيم The Grand Design» الذي اعتبر المنقذ الذي طال انتظاره ليخلصهم من ورطتهم التي علقوا فيها، ومن ثم اهتممت بالكتاب لأعرف سبب هذا الابتهاج وما الجديد فيه.
الآن بعد أن أعدت قراءة الكتاب مرتين أستطيع أن أقول إنه خيّب أملي جدا ولم أجد فيه شيئا يستحق كل هذا الاحتفاء!
الكتاب باختصار يتهرب من الاعتراف بضرورة القول بوجود صانع للكون أخرجه من العدم بنفي تلك الضرورة، ويعتمد على ركيزتين اثنتين: ميكانيكا الكم ونظرية النسبية، حيث يبني على نتائج بعض التجارب فيهما ثم يتجاوز تلك النتائج المحسوسة إلى بناء صرح خيالي وهمي يحاول المؤلف ستيفن هاوكنج بدهاء أن يمرره إلى ذهن القارئ على أنه صحيح كما أن نتائج تلك التجارب صحيحة ثابتة، متجاوزا في قفزته تلك حقيقة أن الثابت هو نتائج التجارب المشاهدة لا تفسيره هو لها ولا خياله الذي بناه على فهمه لها، ثم يحاول تمرير القول بفرضية «الأكوان المتعددة Multiverse» موهمًا القارئ بثبوتها مع أنها مجرد فرضية لا تعضدها أي مشاهدة أو تجربة حسية حتى الساعة، وكل ذلك ليصل إلى النتيجة المبتغاة والنجدة المنشودة للملاحدة: أن وجود هذا الكون بهذا النظام صدفة أمر ممكن وأن الكون موجود لأن قوانين الفيزياء حتمت وجوده!
ولعل الجملة التي تختصر كل الكتاب وتلخص نتيجته هي قوله:
“Because there is a law such as gravity, the universe can and will create itself from nothing. Spontaneous creation is the reason there is something rather than nothing, why the universe exists, why we exist. It is not necessary to invoke God to light the blue touch paper and set the universe going.”
ترجمة: «بسبب وجود قانون كقانون الجاذبية فإن الكون يمكنه وسيمكنه خلق نفسه من العدم. الخلق الذاتي هو السبب في وجود شيء عوض لا شيء، هو السبب في وجود الكون، في وجودنا نحن. ليس ضروريا أن نستحضر ونفترض وجود الإله لتفسير وجود الكون» انتهى.
نظرت مليًّا في هذه الجملة العجيبة، وقلبتها يمنة ويسرة وأنا أحس أن ثمة خطأ ما فيها، ثم اختصرتها فظهرت لي هكذا: قانون الجاذبية ← وجود الكون.
لكن.. مهلا.. قانون الجاذبية مجرد قانون “مفهوم عقلي” لا وجود له هو نفسه في الخارج، دع عنك أن يوجد الكون. القوانين لا تخلق شيئا، هي مجرد وصف لظاهرة، مجرد جمل عقلية لا يمكنها الفعل، قوانين الفيزياء يمكنها أن تفسر كيف تسير السيارة لكنها لا يمكنها تسيير السيارة وبالتالي لا بد من وجود فاعل.
لا يمكن أن يكون المقصود هو ذات القانون، فهاوكنج إذن يقصد الجاذبية نفسها قطعا، فيكون اختصار قوله كالتالي: وجود الجاذبية ← وجود الكون .
لكن.. مرة أخرى وبعد التأمل، فإن الجاذبية Gravitation هي ميل الكتل والأجسام للتحرك نحو بعضها البعض!
فإذا لا وجود للجاذبية دون وجود الأجسام والكتل، والأجسام والكتل هي الكون، فلا وجود للجاذبية دون وجود الكون!
صارت الجملة: وجود الجاذبية → وجود الكون ← وجود الجاذبية!
وهذا هو الدور المستحيل عينه الذي أخبرنا عنه مشايخنا في دروس علم الكلام الأشعري التقليدي القديم الذي عفى عنه الزمن ولا فائدة في درسه اليوم وفق البعض!
كل هذه الزوبعة والاحتفاء فقط لأن هاوكنج فسر وجود الكون بالدور – وإن كان بجملة مموهة – بعد أن ثبت بالمشاهدة بطلان التسلسل، يعني كل جهدهم وكلامهم دائر بين الدور والتسلسل الذي قتله علماؤنا بحثا وأبطلوه منذ مئات السنين!
عند هذا الحد شعرت بالإحباط وبالأسى على الوقت الذي أضعته في قراءة هذا الكتاب، إن هاوكنج يفترض الاكتفاء بالجاذبية وبقية القوانين الفيزيائية عن الله في تفسير خلق الكون من العدم ما يعني أنه يفترض وجود الجاذبية قبل وجود الكون الذي يبتدئ عنده مفهومنا للزمن، فالجاذبية – وبقية قوانين الفيزياء التي يفسر بها وجود الكون – إذن موجودة قبل وجود الزمن، فإما أن تكون الجاذبية التي يتحدث عنها كما التي نعرفها نتاج وجود الأجسام التي يقع التجاذب بينها فلا يمكن أن توجد قبل وجود الكون ويكون كلامه دائرة مفرغة تقول إن الجاذبية خلقت الكون والكون خلق الجاذبية، أو تكون الجاذبية – وبقية القوانين الفيزيائية – التي يتكلم عنها غير خاضعة للزمان، غير مادية، وغير مخلوقة في نفسها وقادرة على خلق الكون، وهذا هو وصف «واجب الوجود» الذي نؤمن به، فيكون هاوكنج وجماعته استبدلوا الإله الواجب الوجود «الله» بإله آخر اسمه «الجاذبية»، فاستبدلوا إلهًا بإله وزعموا التحرر من الإله!
من نعم الله على الإنسان أن يقدّر له دراسة علمي الكلام والمنطق من تلك الحواشي والكتب الصفراء التي يهزأ بها البعض ليتقي بهما السقوط في هذه المهاوي التي فرح وافتتن بها خلق كثير.
صدق من قال: «كل علم عبد لعلم الكلام».. الحمد لله.