كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لينَ الجانب ، ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما ضرب امرأة ولا خادما قطّ ، ولا قال لأحد أفٍ قطّ، كان منبعا للإنسانية والرحمة، ليس فقط لمن صدق به وآمن بل لمن أعرض وتولى، بل لغير البشر من الحيوانات والجمادات، كان كما وصفه الله “رحمة للعالمين” ، وكم سمعنا من علمائنا قولهم: إننا نتعلم ما يصير به الإنسان إنسانا قبل أن نتعلم ما يصير به المسلم مسلما، وكانت معاني الرحمة والإنسانية سارية في الأمة على مدى عمرها ، يُرحم الضعيف وتبنى المستشفيات، ويُساعد من بيت المال الفقير والأرملة وابن السبيل وتصرف الزكاة لمستحقها، ويُبنى من أموال الأوقاف المستشفيات والمدارس حتى صار هناك وقف لسقيا الحيوانات في الطرق فأنشأت مساقي للقطط والكلاب والطيور من أموال الأوقاف.
اليوم انتشر التطرف، وزاد التكفير، وانتهجت الجماعات الدينية العنف للتغيير، وظهرت داعش وأخواتها من الحركات الإرهابية التي تستميل عقول بعض الشباب بخطاب ديني مغرق في القبح والعنف، يحرف الآيات ويلوي عنق النصوص ليستبيح به دماء الموحدين قبل المعاهدين والمستأمنين، وصرنا نرى في بلادنا من يزدري النفس التي حرم الله إلا بالحق ويعتدي على كرامتها بالقتل أو الظلم أو الإهانة تحت الشعارات الدينية، وصار الغالب في الخطاب الديني هو إهدار القيمة والمبدأ والبحث عن المصلحة، توارى خطاب الحب والرحمة والبر، وفشا العنف وخطاب الكراهية أصبحنا نرى خطابا دينيا “لا إنسانيا”.
* * *
كان شيخ مشايخنا المرحوم الشيخ أحمد مرسي النقشبندي يقول لطلبته ومريديه أنه دائما ما يجعل الحزام الذي يضعه على القفطان بنفس لون باطن العمامة، ولما استغرب الطلبة وسألوه: إن لون باطن العمامة لا يرى للناظر فما الحكمة من جعلهما بهذا التناسق ونفس اللون؟ فكان يجيب: إن الجمال قيمة في ذاته حتى لو لم يــره أحد!
هل ترى اليوم في الخطاب الديني من يتحدث عن أثر العقيدة الإسلامية في الفنون والعمارة، هل تسمع اليوم من يتحدث عن أثر القرآن الكريم والسنة المطهرة في ذوق الإنسان المسلم وفي اختياراته في الملبس والمأكل والمشرب، وهل يتمثل المدرسون اليوم في حلق العلم قيمة الجمال أثناء الكلام على الطهارة، وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين باتباع خصال الفطرة، واستحباب الأغسال المندوبة، وشغفه صلى الله عليه وسلم بالطيب؟ وهل بقي من يشرح في دروس العقيدة أو السلوك معنى وصف الله بالجميل الذي يحب الجمال؟ لقد صار ذلك هو أقل القليل في خطابنا الديني، طغى على خطابنا الديني “اللا جمالية”.
* * *
انعكس كلّ ذلك على واقع شباب المسلمين، فصار بعض المسلمين لا يدرون الغاية من وجودهم في هذه الدنيا ، وبعضهم صار مقلدا في العقائد الدينية، لا يستطيع إقامة الحجج ولا رد الشـّــبـُــه المتعلقة بأصل الإيمان ووجود الله وصدق النبوة والدار الآخرة، وبعضهم لم ير في الدين ما يشبع حاجته الروحية والإنسانية بقيمة النفس البشرية في الدنيا، وكثير منهم لم يجد في الشرع الشريف موردا لقيم الجمال والحب والتسامح والأخوة وهي القيم العليا للإنسانية في العالم التي أرسل الله بها أنبياءه ليتمموها ويحاربوا نقائضها، وكل ذلك لأننا ورثنا خطابا دينيا : لا عقلانيا، ولا أخلاقيا، ولا إنسانيا، ولا جمالياً .
إذا فتشت عن أسباب بعد الناس عن الدين، وظهور الإلحاد في الفترة الأخيرة فلن تخرج عن هذه الثلاثة: 1-التخلف الحضاري الذي أورث الشباب صدمة المعرفة وانبهارا بالغرب وولعا بتقليده والسير في ركابه، وكراهية لكل موروث ثقافي أو ديني ظنا أنه سبب هذا الردة الحضارية مع تراجع مجتمعاتنا حضاريا واقتصاديا وأخلاقيا.
2-الأمية الدينية وقلة المعرفة بالعلوم الشرعية والثقافة الدينية التي سلمت كثير منا لأوهام كثير من المضللين والمنحرفين عن قطعيات الشريعة، مع الانفتاح المعرفي والثقافي والمعلوماتي الهائل عبر الفضائيات وشبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
3-تردي الخطاب الديني وانحرافه عن مقاصد الشريعة وأدلة الوحي ومناهج الفهم وقيم الدين العليا فصار بلا عقل أو جمال أو إنسانية أو أخلاق، وتراجع دور العلماء والدعاة.
* * *
” بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن“.
حديث نبوي شريف
* * *
في هذه المقالات سوف نحاول تقريب أهم بحوث علم الكلام والفلسفة الإسلامية لجماهير القراء من غير المتخصصين فيها، وإقامة الأدلة البرهانية على العقائد الدينية الإسلامية ثم نذكر أشهر ما يحتج به اللا دينيون والملحدون على نفي النبوة أو إنكار وجود الله، وما يحتج به من يتوقف في هذه المباحث ويرفع شعار اللا أدرية والنسبية، ثم نذكر المقاصد العامة للشريعة الإسلامية وطرق دلالتها على سعادة الإنسان واستقامة حياته، سنحاول أن نجلي قدرا ضئيلا من الركام الهائل من تراثنا وعقيدتنا وأخلاقنا ، وفلسفتنا في الوجود والأخلاق، ونظرتنا للكون والحياة والناس والأمم المخالفة لنا في العقيدة والقانون وأنماط الحياة، نسأل الله انشراح الصدر وسداد الأمر والعصمة والتوفيق، ونعوذ به من الشقاء والخذلان، وهو سبحانه من وراء القصد