أ. محمد سامي
باحث بمؤسسة طابة وجامعة أكسفورد
كثير ممن يسافرون لقضاء فترات طويلة في الغرب يعودون إلى بلادنا بنظرة ساخطة على حضارتنا، وعلى عاداتنا وتقاليدنا، وعلى موروثنا الفكري، وعلى العديد من القضايا الدينية مثل جدوى العبادات الظاهرة، ودور الدين في المجتمع، وقضايا المرأة، وحرمة الخمر وغيرها. وكذلك يعودون بغضب على التبريرات التي تعلموها لتصرفاتهم الدينية مثل أننا لا نأكل الخنزير لأنه مضر بصحة فيقولون: هناك مأكولات أكثر ضررًا من الخنزير فلماذا لا يمنعنا الدين منها؟
في الحقيقة، نحن لا نمتنع عن أكل الخنزير لأنه مضر، نحن نمتنع عن أكل الخنزير لأن الله سبحانه وتعالى نهانا عن أكله، فنحن ننتهي عن أكله امتثالًا لأمر الله فقط لا غير. لكن لماذا يهتم الإله بهذه التفاصيل للإنسان؟ أليس كافيًا أن نعيش في سلام ولا نؤذي غيرنا؟
في رأيي هذا السؤال ينبع عن عدم تعلمنا للدين بطريقة صحيحة منذ الصغر. فالسؤال الصحيح في رأيي هو: ما الذي يسمح لنا بأكل الخنزير؟ نحن في هذا الكون كمن يستيقظ في بستان كبير له صاحب، لا يحق له أن يتصرف في هذا البستان إلا بإذن صاحبه. الله سبحانه وتعالى هو صاحب هذا البستان الكبير المسمى بالكون وبالتالي لا يحق لنا أن نتصرف في أي موجود في هذا الكون إلا إن علمنا أن صاحب الكون يأذن لنا باستعماله. لكنا نعيش في ظل حضارة أنكرت الإله، وجعلت النفس البشرية هي الإله الجديد الذي يتحكم في الكون بأسره بدءا من أبسط المخلوقات وصولًا إلى أرقاها وهو الإنسان. فلم تكتفِ الحضارة الحداثية باغتصاب الطبيعة مؤدية بنا إلى الأزمة البيئية التي نعيشها، بل وصلت بها الأنانية إلى اغتصاب حياة البشر الأضعف منهم كما تفعل الشركات الكبرى في مصانعها في دول العالم الثالث. الشركات التي تعامل الإنسان على أنه آلة وتحبسه في المصنع وتكبته نفسيا إلى أن يصل به الحال في كثير من الأحيان إلى الانتحار. الشركات التي تحبس عشرات الآلاف من الحيوانات في صناديق حتى تستطيع أن تستخرج منهم أكبر قدر من الإنتاج، ولا يقتصر ذلك على الإنتاج المأكول بل يأخذون منهم الهرمونات والكيماويات المطلوبة للسلع الاستهلاكية والترفيهية.
كل ذلك يحصل بسبب أن الإنسان لم يجد من يضبطه، لأن النفس الإنسانية لم تتربَّ على أن تتحكم في شهواتها، فصارت تلهث وراء كل ما يلبي رغباتها، متناسية بذلك المفاهيم الراقية مثل مسؤولياتها تجاه الإنسان والحيوان بل والجماد. ذلك لأن هذه المفاهيم لم تتحول عند كثير من الناس من مفاهيم في العقل إلى حياة تعاش، لأن الإنسان عندما تغلب عليه شهوته يضعف أثر عقله على تصرفاته فيتصرف تصرفات تخالف مقتضى العقل السليم. وكلنا نرى ذلك من أنفسنا عندما نشتري أمرًا لا نحتاجه ونحن نعرف بعقولنا أننا لا نحتاجه وأن شراءه قد يؤثر علينا بالسلب ماديًا، لكننا في لحظة الشراء في السوق تأتي لنا أنفسنا بكل المبررات العقلية لشراء هذا الشيء. ثم بعد أن تنطفئ هذه الشهوة بداخلنا نجزم بأننا لم نكن نحتاج هذا الأمر كما ظننا.
الله سبحانه وتعالى هو خالق نفوسنا وخالق شهواتنا، وهو يعلم تمامًا كيف تروَّض هذه النفس حتى لا تتحكم في الإنسان تحكمًا يضعف من تأثير عقله عليه، وبالتالي يتصرف الإنسان تصرفات مخالفة للعقل فيكون تأثيرها عليه وعلى المجتمع المحيط به تأثيرًا سلبيًا.
نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نفسنا التي بين جنبينا هي أكبر عدو لنا، وعلمنا أن نكرر كل يوم دعاء: اللهم لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، فنبهنا إلى أن الاتكال إلى النفس يكون أشد انتزاعًا لحرية الإنسان من الاتكال إلى غيره من الناس، فإن النفس لا تفارق الإنسان لحظة فلو كانت النفس هي ما يتحكم فيه لصار فاقدًا لحريته في كل لحظة من لحظات حياته.
الشريعة التي أرسلها الله سبحانه وتعالى لنا ليست هنا لتقيد حريتنا لكنها هنا لتحررنا من أسوأ أنواع الأسْر والقيد الذي هو أسْر النفس. فالإنسان الذي يمنع نفسه من بعض رغباتها يتعلم منذ صغره أنه لا ينبغي له أن يفعل كل ما يريد لأن ذلك سيؤدي به إلى تعدٍّ على نفسه وعلى غيره. فالإنسان الذي يحدد مأكولاته ومشروباته وتعاملاته الاجتماعية بالرغم من رغبة نفسه فيها، يتربى شيئًا فشيئًا على معنى أن هذا الكون ليس ملكه بل هو ملك الله سبحانه وتعالى، وبالتالي لا يتصرف فيه كما يحلو له إلى درجة تجعله يدمر البيئة ويهدد صلاحية كوكب الأرض للحياة الإنسانية.
وأختم هذا المقال بأحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاني نقلها عنه الصحابة رضي الله عنهم تعلمنا أن نتعامل مع غيرنا من الحيوانات بل من الجمادات بأدب وبوعي أن هذه المخلوقات ليست ملكنا، بل استعمالنا لها يجب أن يكون على طريقة معينة تذكرنا دومًا أننا ليس لنا أن نستغلها كما نشاء، فنحن عندما نقول: إننا لا نأكل إلا اللحم المذبوح بطريقة معينة، نذكِّر أنفسنا أن هذا اللحم لولا أن أذن لنا الله أن نذبحه بهذه لما كان لنا الحق في أن نأكله لأنه ليس ملكنا، وإليكم بعض تلك الأحاديث:
روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إذ امرأة من الأنصار على ناقة فضجرت منها فلعنتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة».
فهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا أن من يلعن الحيوان الذي سخره الله له لا يحق له أن يركبه ويستعمله. هذا في حق الأذى المعنوي بالكلمة فما بالنا بالأذى الحسي الذي نسببه للحيوانات اليوم؟
وروي عن سيدنا أبي الدرداء الأنصاري أنه قال: «ما لعن أحد الأرض إلا قالت: لعن الله أعصانا لله».
وهنا صحابي من أصحاب رسول الله يخبرنا أنه لا ينبغي أن يلعن الإنسان الأرض التي سخرها الله له ليمشي عليها، ويذكرنا أن الأرض مخلوق مثلنا، وأن هذا المخلوق لم يعص الله قط ونحن إن كنا عصاة كانت هذه الأرض أفضل منا.