هل يأمر القران الرجال بضرب النساء؟

هل يأمر القران الرجال بضرب النساء؟

كوثر السعدني

واحد من الأسئلة المتكررة حول شبهات ظلم الإسلام للمرأة هو سؤال هل يأمر الإسلام الرجال بضرب النساء حقا؟
لأن غالبا ما تحكي النساء المعنفات أن أزواجهن يبررون ضربهم لهن في مرحلة الصلح والاسترضاء بأن هذا هو حقه الشرعي، وأنه ربما بالغ قليلا (وقليلا هذه غالبا ما تكون كدمات وعلامات من أثر الضرب على أفضل التقديرات) لكنه في النهاية لم يكن مخطئا من الناحية الشرعية، فهل يعد هذا حقه شرعا؟

قطعا لا يُعد هذا الضرب المسبب للأذى ماديا أو معنويا مباحا في الشريعة، بل هو عدوان محرم.

طيب.. هل يسمح الإسلام للرجال بضرب النساء ولو بأدنى درجة؟ ولماذا يستخدم بعض الرجال الدينَ كحجة يدافعون من خلالها عن سلوكهم المشين؟ هل الدين مسؤول؟

       لنتخيل معا دائرة كبيرة ودائرة صغيرة، الفقه هو الدائرة الصغيرة، والشريعة هي الدائرة الكبيرة التي تحتوي على دوائر أخرى غير الفقه مثل العقيدة والأخلاق، فمعرفة الحكم الفقهي في أي قضية لا يعني أن هذا هو التصور الشرعي لها وأنه ما يجب أن يكون، وخاصة أن الفقه أشبه ما يكون بالقانون، نحن نلجأ للقانون في حالات الخلاف، لكن الحياة ليست مبنية على الخلافات والمنازعات الفقهية، صحيح؟
لا نبحث عن حكم الشرع أو القانون إذا ما وجدنا شخصا يوشك على الغرق ونحن نستطيع السباحة، ولا إذا ما وجدنا منزلا مفتح الأبواب وفيه خيرات كثيرة ولا حراس أو شرطة، ولا إذا ما اختلفنا مع صديق أو حبيب، في العادة نحن نقدم على الفعل الذي تمليه علينا أخلاقنا وتربيتنا وتربيتنا تعتمد بدورها على الدين والفلسفة الذين يؤمن بها الأب والأم، ثم إذا ما بدأ النزاع حول هل كنا مصيبين أم لا نلجأ حينئذ للشرع والقانون، وقد ينشئ الشرع أو القانون سلوكيات معينة ابتداء، كتجريم قطع الإشارة الحمراء مثلا، أو كإباحة ذبح الأضاحي في عيد الأضحى، وغيرهما.

    ومنذ نشأة الحياة المعرفية الإنسانية تحصل تغيرات فكرية لأسباب مختلفة منها المكتشفات العلمية وتأثيرها على الأوضاع الاقتصادية والفلسفات المرتبطة بها، ويسهم هذا التغير الفكري في تغير شكل الاجتماع الإنساني وقوانينه وأعرافه، ولكي نحسم أي نقاش علينا أن نتفق على الأصول المعرفية والفكرية التي نحتكم لها، فنتناقش في ما هو الدين؟ وهل ينشئ القيم أم لا؟ وهل الأفكار والفلسفات الإنسانية التي ظاهرها التعارض مع الدين صواب في نفسها بالضرورة؟ وهل يحق لنا التعرض لأفكارها المختلفة بالقبول والرفض؟

والدين:

هو“وضع إلهي سائقٌ لذوي العقول السليمة لما فيه الخير لهم بالذات”، فيجد المرء فيه أجوبة على الكثير من الأسئلة الوجودية المهمة؛ لأنه ليس فقط اعتقادا، بل أيضا شريعة (عبادات ومعاملات)، وأخلاق.

ومعنى كون الدين منشئا للقيم أنه المرجعية التي تحكم على حسن وقبح الأفعال فيترتب عليها الثواب والعقاب، فيحرم الدين الزنا ويعاقب عليه ويبيح الزواج ويثيب عليه وبهذا يكون الزنا قبيحا والزواج حسنا.
وعندما يفعل الدين ذلك فليست القضية مجرد الثواب والعقاب، بل يحدد سمات معينة للمجتمع لا تكون العلاقات الجنسية خارج الزواج فيه مقبولة ، وبالتالي فثمة شكل للبيوت والأسر داخل هذا الإطار الشرعي وطبيعة الحقوق والواجبات بينهم أنشأها الدين ابتداء.
وعلى النقيض نجد محاولات لجعل البشر هم مصدر التشريعات والقيم وعندما يحدث ذلك نجد استساغة للزنا تحت مسمى حرية ممارسة الجنس، ثم استباحة الشذوذ، وما يترتب على ذلك من تغير شكل البيوت والعلاقات في المجتمع، وهكذا.
   فإذا اتفقنا على أن الدين هو مصدر القيم فسيكون السؤال التالي ما هو حكم الدين في قضية الضرب وهل الحكم معقول المعنى (أي يتغير بتغير علته) أم تعبدي (أي ثابت لا يتغير)، وإن كان الحكم معقول المعنى فما هي علته؟ وهل مازالت العلة متحققة أم انتفت فيتغير الحكم؟

   وللدين فلسفة كلية عموما وفي كل قضية خصوصا، ونفهم فلسفته من خلال تتبع جزئياته في الموضوع الواحد، فحتى نفهم بعض الأحكام المتعلقة بقوامة الرجل على المرأة سنحتاج لفهم أحكام الأسرة من نفقة ومسؤوليات وواجبات للطرفين وأحكام الولاية في الفقه الإسلامي بأنواعها المختلفة وليس مجرد الحديث عن حكم واحد جزئي منعزل عن سياقه ومنظومته وسنفرد مساحة أكبر للحديث عن القوامة مستقبلا.

وإذا كان الدين ينشئ المجتمع بخصائص معينة بناء على أحكامه كتحريم الخمر مثلا، فهل كل شيء في المجتمع يخترعه الدين؟

هناك علاقات طبيعية بين الأشياء وعلاقات شرعية بين الأشياء، فالعلاقات الطبيعية مثل أن شرب الماء يذهب الظمأ وأكل الطعام مشبع، والنيران محرقة.. كل هذه الأشياء الشرع لا يخترعها، ومن ضمن الأشياء التي لا يخترعها الشرع هو أن الضرب كان وسيلة لتحقق الإصلاح ضمن منظومة من الثواب والعقاب وتراتبية الولاية داخل هذا المجتمع فكما كان شرب الماء يروي العطشان ويحافظ على الحياة، كان الضرب الخفيف غير المهين يصلح العلاقة الزوجية ويحافظ على الأسرة والأبناء، وكان الرجل أقدر على استخدام هذه العلاقة الطبيعية من المرأة بحكم الطبيعة الجسدية لكليهما.
وكذلك كان الضرب كوسيلة للإصلاح مستخدم من قبل القضاة في أحكام قضائية مختلفة، لأنهم كانوا قادرين على تنفيذها بالفعل.
 وعلة الضرب في الشريعة الإسلامية هي الإصلاح (أي غرضه الإصلاح) فلم يوجد الشرع هذه العلاقة الطبيعية من حصول الإصلاح بعد الضرب، لكن الشرع يحدد هل يجوز استخدام هذه العلاقة أم ينبغي تجاهلها؟ وهل يستخدم هذه العلاقة كل أحد في المجتمع؟ أم يستخدمها الرجل فقط وللنساء وسيلة أخرى للإصلاح تكون فيها أقدر على تنفيذها فعلا؟
    كما أن الشرع هو الذي يقرر هل من حق الزوجة أن تضرب زوجها إذا نشز مثلا؟ لكنه لا يقرر هل يفيد هذا الضرب فعلا أم لا، فهي علاقة عادية كما ذكرنا، وبالتالي قد ينيط بعض أحكام إصلاح العلاقة بالزوج، وبعضها بالقاضي، فبعض الأحكام يربطها الشرع بالواقع وبمن له الولاية وقدرته على تنفيذ الحكم فعلا لأن لها غرضا معقول المعنى كما ذكرنا.

 فسؤال هل يحقق الضرب الإصلاح؟
     علاقة طبيعية، والعلاقات الطبيعية يمكن أن تتغير.
وسؤال هل من حق الرجل أن يستخدم هذه الوسيلة للإصلاح أو لا؟
     علاقة شرعية، والأحكام الشرعية المرتبطة بمعنى أو هدف محدد تتغير مع تغير وسائل تحقيق هذا الهدف.

و ماذا عن حقوق الزوجة؟  هل لها أن تصلح زوجها إذا نشز هو أيضا؟

   على مدار القراءة في المدونات الفقهية نجد تشوفا لحالة من الاستقرار الأسري يكون فيها قيادة للزوج مرتبطة بواجبات معينة على رأسها النفقة والرعاية وهي حقوق أصيلة للزوجة ويعد مقصرا حال امتناعه ولها مقاضاته لاستيفائها، وهو كذلك له حقوق أصيلة مثل حق الطاعة وعدم النشوز وله تحصيل حقوقه بوسائل مختلفة.
   ويسقط حق الزوج في الطاعة لو امتنع عن النفقة.
 لكن لو أعسر بالنفقة فلا تسقط طاعته وليس للزوجة الفسخ عند الأحناف، وتُخير في الفسخ عند الجمهور، يعني يُترك القرار لها؛ أتتحمله وتصبر عليه أم تتركه.
وهناك فرق بين الامتناع والإعسار واضح.

 ويسقط حق الزوجة في النفقة لو نشزت، وكلاهما مطالب بأداء واجباته للآخر لاستيفاء حقوقه.
وامتناع الزوج عن النفقة يعد نشوزا في حق الزوجة كما امتناعها عن الطاعة يعد نشوزا في حق الزوج.
لكن يجب أن ننتبه أننا في كل هذا الحديث عن الحقوق والواجبات نتحدث في حدود ضيقة جدا على المستوى الواقعي، فالحياة لا تقوم على التصارع والخلافات وهذا التفصيل للحقوق والواجبات لحل النزاعات، والشرع ليس الفقه فقط كما ذكرنا في أول المقال، والحياة ليست نزاعا فقط.
كما أن اختلاف وسائل تحصيل حقوق كل طرف راجع إلى اختلاف احتياجات كل نوع الأساسية واختلاف قدرات التحصيل والتأثير.

هل يعني هذا أن الضرب مباح؟ وهل كل التكاليف الشرعية تقبلها نفوسنا بسهولة؟


    كان أحد بنود صلح الحديبية الشهير الذي عقده سيدنا محمد ﷺ مع الكفار بعد رفضهم لدخول المسلمين معتمرين على أن يأتوا معتمرين في عام آخر،  أن يرد المسلمون من يأتي إليهم مسلما، وألا يرد الكفار من يذهب إليهم من المسلمين.
 فجاء أبو جندل (أحد الصحابة) مسلما للمسلمين، فردوه حسب بنود الصلح؛ فأثر ذلك في نفسية المسلمين أشد التأثير والنبي ماض في عقده وقلوب المسلمين ثائرة تغلي، لكن لا يعترضون احتراما للعقد.
   أدى ذلك وغيره من بنود الصلح المجحفة إلى رفض المسلمين القلبي الشديد لهذا الصلح وغضبهم من بنوده حتى أنهم لم يمتثلوا للأمر النبوي بالحلق والتقصير (لعدم أدائهم العمرة)، إلا بعد أن حلق النبي ﷺ أولا بنفسه، فتأتي الروايات بأنهم كانوا يحلقون لبعضهم بعنف وضيق وغم حتى كاد يقتل بعضهم بعضا.
   ففي هذه القصة الملهمة نتعلم كيف ممكن أن تأتي الأحكام بما فيه مشقة على النفوس حتى على نفوس الصحابة أنفسهم، بل إن التكليف معناه الإلزام بما فيه مشقة، وأن هذا لا يطعن في إيمان المكلف الذي يرى مشقة في قبول أحد الأحكام، المهم هو التأكد من الحكم الشرعي ثم الإقرار به، وأن بعض الأحكام التي يواجه المسلم صعوبة في قبولها فضلا عن الإذعان لها غير مختصة بنوع معين، فالتكليف على الرجال والنساء، والتفاوت في الأحكام لا يعني التحيز لنوع على حساب الآخر.
   فأصل فكرة أن الدين يوافق رغباتنا وأهوائنا ليست صحيحة، لكن الدين مع ذلك يراعي مصالحنا بنظرة أعم من النظرة الفردية التقليدية، فنجد رعاية لنموذج الأسرة المستقر في المقام الأول، ثم من خلال ذلك يكون التوازن بين المصالح الفردية لكل طرف من أطرافها على حدة تاليا.

والآن نأتي للسؤال الأهم، ما هو تفسير آية سورة النساء (34) وما حكم الشرع في مسألة الضرب؟

كانت العلاقات الزوجية بين النساء والرجال في الصدر الأول للإسلام مثالا يحتذى رغم معيشتهم في صحراء جافة فقيرة الموارد شاقة الظروف المناخية مع حرارة شديدة نهارا وبرودة شديدة ليلا، ولم تكن طباعهم صعبة وتعاملاتهم عسيرة مع ذلك، فتحكي لنا أمنا عائشة (رضي الله عنها) قصصا كثيرة شديدة الجمال عنها مع سيدنا النبي ﷺ من كيف كان يترك لها مساحة آمنة لحياتها في شتى المواقف، ومنها أنه ﷺ لم يضرب امرأة ولا خادما له قط ([1]).

وفي رواية أخرة عن  نبينا ﷺ  قال: «استوصوا بالنساء خيرا»([2]).

وقال ﷺ  أيضا عمن يضربون نسائهم أنهم ليسوا من خيار الصحابة([3]).
كما قال ﷺ “لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم”([4]).

فكيف نفهم هذا التعارض الظاهري بين نصوص وأفعال النبي ﷺ وبين آية سورة النساء (34)؟ وكيف نعلم الحكم الشرعي في هذه المسألة؟

الإجابة في نقطتين أساسيتين:

الأولى: أن فهم القرآن يتطلب الرجوع لكتب التفسير لمعرفة مناسبة نزول الآيات وفهم معاني الألفاظ المتعددة لغويا [مثال: لفظ “القرء” في القرآن: اختلف حوله المفسرون هل معناه الطهر أم الحيض لأن اللفظ يحتمل المعنيين لغويا]، وغيرها من الاحتمالات التي ترد على أي نص؛ لأن النصوص حمالة أوجه.

ثم بعد ذلك تأتي الثانية وهي أن القرآن أحد المصادر الأساسية للتشريع مع السنة والإجماع والقياس فلا نأخذ الحكم الشرعي من القرآن وحده مباشرة عندما نقرأه؛ لأن معرفة الأحكام الشرعية تحصل من خلال العمل على الجمع بين نصوص القرآن والحديث، والإجماع على بعض الأحكام، ثم القياس حال الحاجة إليه، وهو دور الفقهاء الذين أنتجوا لنا علم الفقه على المذاهب الأربعة الكبرى في الإسلام.

فكيف نظر المفسرون  إلى آية سورة النساء؟

حاولوا فهم معنى الخوف في {تخافون نشوزهن} المقصود في الآية، وهل هو الظن أم العلم بالنشوز؟ فيأتي بعض المفسرين بقول {ابن عباس: تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون}، ويأتي بعضهم بأن الخوف على بابه  في اللغة من ضد الأمن، فالمعنى: يحذرون ويتوقعون، لأن الوعظ والهجر إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف منه.

ثم هل جاءت الأفعال المختلفة (فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) من الأدنى للأعلى لتدل على وجوب الترتيب بها؟ وهل جاء حرف العطف “الواو” على أصله فيكون للجمع بين الأفعال الثلاثة أم جاء للترتيب بحسب الأحوال المختلفة؟

–          وما هو الوعظ المقصود في الآية؟ وهل الهجر هو هجر مكان النوم، أم للبيت كله وذكر المضجع كان على سبيل المجاز، أم هجر للكلام معها؟ ولو كان هجرا للكلام معها فإلى متى يطول وخاصة مع وجود حديث آخر يمنع الزيادة على ثلاثة أيام في هجر المسلم لأخيه المسلم؟ ومنهم من فسر الهجر على أنه الربط من هجر البعير أي ربط البعير بالهجار، ووجود خبر ضعيف فيه المعنى ذاته، لكن جاء الزمخشري صاحب تفسير الكشاف وقال هذا من تفسير الثقلاء.


فنرى هنا كيف تكون حركة المفسرين في التعامل مع الاحتمالات اللغوية، ثم نقاشهم العلمي اللغوي لاستبعاد هذا الاحتمال البعيد تماما أيضا، ورفضهم للفهم البعيد الخاطئ لمفسر من المفسرين الكبار حتى لو قُبل لغويا.

وما معنى النشوز الذي تتحدث عنه الآية؟  فنجدهم يبحثون عن المعنى اللغوي: النشوز أي  العصيان، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض.
فهل العصيان المقصود هو أن تأتي بفاحشة الزنا؟ أم  هو فعل دون ذلك؟

    فنجد في تفسير القرطبي سوق لحديث نبوي  في حجة الوداع يفسر من خلاله النشوز أن الرسول ﷺ قال: (ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ).
 قال: هذا حديث حسن صحيح، وقوله: (بفاحشة مبينة) يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم، وليس المراد بذلك الزنى، فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد، فيمكننا بالتأمل هنا أن نفهم كيف يفكر المفسر فهو يضع الاحتمالات الممكنة للمعنى اللغوي ثم يستثني منها ما نعلم يقينا عدمه بدليل آخر.

ثم في تحديد قدر الضرب نجد: وقد قال ﷺ: (اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح)، قال عطاء: قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح؟ قال بالسواك ونحوه.

كل هذا البحث في تفسير الآية بحث لغوي وتفسير للقرآن بالقرآن وبالأحاديث وبالمأثور، وإذا تأملنا في التفاسير الكبرى  بداية من تفسير الطبري مرورا بتفسير الزمخشري والرازي والقرطبي والبيضاوي وأبو حيان والسيوطي وصولا لتفسير الألوسي لن نجد طريقة مختلفة في النظر للمباحث اللغوية وللنصوص المختلفة التي تتناول موضوع الآية الكريمة، لكننا نجد بدءا من تفسيري المنار لمحمد رشيد رضا المتوفى ت 1354هــ عن محمد عبده، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور المتوفى 1393 هــ طريقة مختلفة في التعامل مع الآية، فبجانب البحث اللغوي والشرعي نجد اجتهادا فقهيا.

فيقول الطاهر بن عاشور في تفسيره: ” احتجوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزوج في ضرب زوجته الناشز، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة، وعندي أن تلك الآثار والأخبار محمل الإباحة فيها أنها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس، أو بعض القبائل، فإن الناس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعدون ضرب المرأة اعتداء، ولا تعده النساء أيضا اعتداء.

وقد ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب قال: كنا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فأخذ نساؤنا يتأدبن بأدب نساء الأنصار.
فإذا كان الضرب مأذونا فيه للأزواج دون ولاة الأمور، وكان سببه مجرد العصيان والكراهية دون الفاحشة، فلا جرم أنه أذن فيه لقوم لا يعدون صدوره من الأزواج إضرارا ولا عارا ولا بدعا من المعاملة في العائلة، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلا بشيء من ذلك.

وأول عطاء إذ قال: لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها. قال ابن العربي: هذا من فقه عطاء وفهمه الشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب هنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى كقول النبيء ﷺ «ولن يضرب خياركم».
وأنا أرى لعطاء نظرا أوسع مما رآه له ابن العربي: وهو أنه وضع هاته الأشياء مواضعها بحسب القرائن، ووافقه على ذلك جمع من العلماء، قال ابن الفرس: وأنكروا الأحاديث المروية بالضرب. وأقول: أو تأولوها. والظاهر أن الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين فأذن للزوج بضرب امرأته ضرب إصلاح لقصد إقامة المعاشرة بينهما؛ فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديا.

ويختم الطاهر بن عاشور تفسيره ملخصا:
” وأما الضرب فهو خطير وتحديده عسير، ولكنه أذن فيه في حالة ظهور الفساد… على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة، بيد أن الجمهور قيدوا ذلك:

 بالسلامة من الإضرار.

2-      وبصدوره ممن لا يعد الضرب بينهم إهانة وإضرارا.

 فنقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع”. اهـ

وكيف تعامل الفقهاء مع النصوص المختلفة وما الحكم؟

  تأتي وظيفة الفقيه المجتهد أكثر تركيبا من المفسر، فليس عليه أن ينظر في تفسير الآية فقط، بل وأن يجمع بينها وبين النصوص الحديثية الأخرى التي تبدو متعارضة معها، فينظر في هل هذه النصوص قطعية الثبوتوقطعية الدلالة([5]) وما ترتيب هذه النصوص فيكون منها عام ومخصص([6])، أو ناسخ ومنسوخ([7])؟

ولكي نفهم كيف يتعامل الفقهاء لاستنباط الحكم الشرعي نقرأ في كتبهم؛ فنجد في كتاب الحاوي الكبير للماوردي الشافعي:
 فصل: فأما ما ورد من السنة في إباحة الضرب وحظره وقد رُوي عن النبي أنه قال: “لا تضربوا إماء الله” فنهى عن ضربهن، وهذا مخالف للآية في إباحة الضرب.

 وأيضا ورد خبر عن عمر بن الخطاب فيه إذن بالضرب عن النبي ﷺ.

فيشير صاحب الكتاب للنصوص المختلفة عن الضرب ثم ييجيب عن التناقض الظاهري في النصوص بالاحتمالات الممكنة:
– أن إباحة الضرب في النشوز فقط، وأما الخبر الآخر الذي ينهى عن الضرب ففي غير النشوز، فإذن الضرب مباح فقط في حالة محددة ومنهي عنه في أي شيء آخر.
– أو أنه أباح الضرب على سبيل الجواز (أي يمكن استخدام هذه الوسيلة، لا أن الشرع يأمر بها) ونهى عنه اختيارا، فيكون الضرب مباح لكنه خلاف الأولى (وهو معتمد المذهب الشافعي).
– أو أن خبر النهي منسوخ بخبر الإباحة، ثم جاءت الآية تشرح موضع الإباحة.

  وفي نهاية المطلب للإمام الجويني نجده يقرر أن الأصل عدم الضرب.

  وهذا في مرحلة التفكير الفقهي التأسيسي المبكر، ثم لما استقر الأمر على أن النصوص يمكن الجمع بينها ليكون حكم الضرب خلاف الأولى تأتي مرحلة توضيح الصورة التي يكون فيها الضرب مباحا، فيأتي تعريف النشوز وأن الوعظ مندوب، ثم إباحة الضرب وأنه خلاف الأولى وشروطه كي يكون مباحا، فنجد من الشروط:

أن الضرب مباح بشرط أن يعلم إفادته، فإن علم أنه لا يفيد يحرم لأنه عقوبة بلا فائدة.

وألا يكون مدميا أو مبرح وإن لم ينفع غيره فيحرم الضرب، الخفيف والمبرح كذلك.

وأنه لا يضرب شفاء لغيظه، بل للمصلحة.

فالحكم المستقر في  أحد المذاهب الأربعة في الفقه ((التراثي)) أن الضرب خلاف الأولى وأنه مباح في حدود شديدة الضيق فليس هو الضرب الذي يحدث الآن الذي فيه تكسير عظام وجروح وندوب وامتهان للزوجة وعنف وغضب ودموية وتشف وغليل، وأن الضرب الذي أباحه الفقهاء المعنى فيه هو الإصلاح؛ فإن انتفى المعنى انتفى الحكم، بل ويحرم حينئذ.

  وتحقق الإصلاح كان ممكنا بهذه الصورة بشروطها المذكورة، فإن فُرض استمرار تحقيق الإصلاح بهذه الوسيلة فسيظل الحكم قائما على ندرة وجود هذه الحالة الآن فالحكم الشرعي يدور مع علته وجودا وعدما، فإذا انتفى معنى الإصلاح لأي سبب يرجع لطبيعة المرأة أو للعرف أو لأحوالها المادية والاجتماعية يصبح الضرب محرما وهو الواقع في أغلب المجتمعات الآن.

الخلاصة:

أننا يجب أن نحدد مرجعية النقاش الأخلاقية لنفهم بماذا يتأثر تفكيرنا وكيف نعرف الحسن والقبيح.

أن الدين هو مصدر القيم، وكل فلسفة مختلفة تطرح قيمها الخاصة، وليس علينا قبول كل شيء ولا رفض كل شيء.

أن الشرع لا ينشئ العلاقات الطبيعية، لكن بعض أحكام الشرع معقولة المعنى ترتبط بالواقع وعلاقاته الطبيعية، فإن تغير الواقع فأدى إلى تغير المعنى، يتغير الحكم تبعا.

أن الزوجة لها حقوق عند زوجها إذا امتنع عنها تلجأ إلى القاضي لتحصيلها، وللزوج حقوق عند زوجته إذا امتنعت عنها جاز له استخدام الوسائل التي تمكنه من استيفاء حقوقه مباشرة، والعلاقة المتزنة لا تقوم على التنازع الفقهي.

أن  الأصل عدم الضرب وأن حكم الضرب في الفقه الشافعي التراثي هو أنه خلاف الأولى ومعلل بتحقيق المصلحة؛ فإن انتفت حرم الضرب.

أن الضرب الحاصل الآن لا علاقة له بالضرب الذي قال عنه الفقهاء أنه خلاف الأولى، والحاصل الآن من عنف وإيذاء محرم قطعا في الماضي والآن وأسبابه مرتبطة بعوامل اجتماعية واقتصادية ونفسية وتربوية وليس بالشرع الإسلامي.

أن فهم القرآن يكون من خلال العودة للتفاسير، وأن معرفة الحكم الشرعي لا تكون بالعودة إلى القرآن مباشرة، بل إلى كتب الفقه، والتجديد الفقهي وتنزيل الأحكام الشرعية يكون بالعودة إلى كتب الفقه وفهم كيفية تناول الفقهاء للنصوص الشرعية وفهم علل الأحكام  المعللة ثم تنزيلها على الواقع.

أن بعض العلل ترتبط بالواقع، فإذا تغير الواقع انتفت إمكانية تحقيق العلة من الحكم وبذلك يختلف الحكم، لا أن مجرد تغير الواقع يؤدي إلى تغير الحكم مباشرة.

وأن حركة المفسرين كانت حركة لغوية وتفسير للآية بالنصوص الأخرى، ثم حركة الفقهاء كانت تجمع بين اللغة وبين علم أصول الفقه وصولا إلى الحكم الشرعي فلم يكن البحث مرتبطا بكونهم ذكور متحيزين ضد النساء، أو بأن الواقع المجتمعي كان متخلفا والآن متقدما.

أن التكليف هو إلزام بما فيه مشقة فلا تأتي الأحكام الشرعية على مقتضى أهوائنا، لكنها مع ذلك تراعي مصالحنا الفردية داخل منظومة كلية.


[1]  أخرجه مسلم (2328)، والنسائي في (السنن الكبرى) (9163)، وأحمد (24034) مطولاً، وأبو داود (4786) باختلاف يسير، وابن ماجه (1984) واللفظ له.

[2]  أخرجه الترمذي (1163)، وابن ماجه (1851)، والنسائي في (السنن الكبرى) (9169)، من حديث عمرو بن الأحوص .

 أخرجه أبو داود (2146)، وسنن ابن ماجة (1985)، والحاكم في المستدرك (2/188)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (14315).[3]

[4]  أخرجه البخاري (4908) واللفظ له، ومسلم باختلاف يسير (2855).

[5]  النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تنقسم من حيث القطعية والظنية إلى أربعة أقسام: فهى إما قطعية الثبوت والدلالة، وإما ظنية الثبوت والدلالة، وإما قطعية الثبوت ظنية الدلالة، وإما ظنية الثبوت قطعية الدلالة.
ويراد بثبوت النص نسبته إلى مصدره، ويراد بالدلالة: مفهوم النص الدال على الحكم المستنبط منه.

[6]  العام هو اللفظ المستغرِق لجميع ما يصلُح له مِن غير حصْر، و العام الذي لم يُخصّص ظاهرٌ في العموم، لا قطعي فيه، فهو ظنِّي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خُصِّص كان ظنيَّ الدلالة أيضًا على ما بقِي مِن أفراده بعدَ التخصيص.

[7]  النسخ هو: رفع حكم شرعي بدليل شرعي.

قم بتقييم المحتوي