كتبه: محمد سامي
المتابع للنقاشات الدائرة حول الخطاب الديني اليوم يدرك أن أحد الأسئلة الرئيسية اليوم هي: هل الدين العلم؟ وهل يوجد في الإسلام ما يسمى بعالم الدين؟ هذه النقاشات مع أهميتها، تفتقر في رأيي إلى شيء أساسي في النقاش الفكري، وهو تحرير المصطلحات، بمعنى أن يوضح كل طرف ما الذي يقصده بكلمة الدين وما الذي يقصده بكلمة العلم.
أذكر أنني حضرت خطبة جمعة ذات مرة قال فيها الخطيب أن بعض الناس يهينون الإنسان عندما يصفونه بأنه حيوان ناطق، فقد جعلوا الإنسان حيوانًا وهذا يعتبر إهانة. وفي الحقيقة دارس المنطق والفلسفة يعرف أن وصف الإنسان بالحيوان هنا ليس بالإهانة، لكن الذي لا يدرس المنطق قد يعتقد أنه إهانة. المقصود بالحيوان هنا: جسم نامي متحرك بالإرادة. هذا الوصف ينطبق على الإنسان وعلى الكثير من المخلوقات الأخرى مثل الحصان، والأسد، والفيل، والقطة. المشترك بين كل هذه المخلوقات هو أنها كلها أجسام قابلة للنمو وقابلة لأن تتحرك بإرادتها وليس بتحريك محرك. فالتفاحة وإن كانت جسمًا ناميًا، فإنها ليست لديها القدرة على التحرك بالإرادة وتحتاج لأن تتحرك إلى قوة تحركها فلا تكون حيوانًا. وعلى هذا التعريف للحيوان، لا يكون وصف الإنسان بالحيوان إهانة بل يكون وصفًا دقيقًا مفيدًا في النقاشات التي تهتم بمعرفة حقيقة الإنسان، وما يميزه عن غيره من الموجودات. لذلك قالوا أنه يشارك الحيوانات في كونه جسمًا ناميًا متحركًا بالإرادة لكنه يخالفهم في كونه ناطقًا، أي لديه قابلية التفكير المنطقي، فسمَّوه بالناطق.
هذا مثال على أن الإنسان إن لم يفهم معنى الكلمات التي يتكلم عنها أي إن لم يحرر مصطلحاته، ربما يدخل نفسه في صراعات فكرية وهمية نحن في غنًى عنها ولا ينبغي أن نشغل أوقاتنا بها.
لذلك أنا أرى أنه قبل أن نسأل إن كان الدين علمًا ينبغي أن نقول: ماذا نعني بالدين؟ وماذا نعني بالعلم؟ في السطور التالية سأحاول أن أقول ماذا أفهم من كل كلمة من هاتين الكلمتين، وما الإجابة على سؤال “هل الدين علم؟” التي تنبني على هذا الفهم. وهذا التبيين سيكون من خلال علم المنطق، لأن المنطق هو القانون الذي يمنعنا تطبيقه الصحيح من الوقوع في الخطأ في التفكير، كما قال الشيخ عبد الرحمن الأخضري:
وبعد فالمنطق للجَنان * نسبتُهُ كالنحوِ للِّسان
فيعصمُ الأفكار عن غيِّ الخطا * وعن دقيق الفهم يكشف الغِطا
ما هو الدين؟ الدين وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود لما فيه الخير لهم بالذات. ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن الدين نظام وضعه لنا الله سبحانه وتعالى، ليسوق أو ليقود أصحاب العقول السليمة للأمر الذي فيه الخير لهم، وهو معرفة الله سبحانه وتعالى، وجنَّتَه التي وعد بها عباده المتَّبِعين لهذا النظام، الذين وثقوا فيما اختاره الله لهم، وقدَّموا ما يريده الله منهم على ما يريدونه هم، عالمين بأن اختيار الله سبحانه وتعالى لهم هو الخير.
أما بالنسبة للعلم، فهناك معنيان يحضران في ذهني له. الأول: العلم الذي هو صفة للإنسان وعلى أساسه نقول أن الإنسان الفلاني عالم بالشيء الفلاني. فأنا إن علمت أن مصر دولة إفريقية يكون لديَّ علم بهذه المسألة. وهذا العلم له عدة تعريفات من ضمنها أنه: إدراك جازم مطابق للواقع. فأنا عندي إدراك لأن مصر دولة إفريقية، وهذا الإدراك أجزم به، وهذا الجزم الذي لديَّ مطابق للواقع، أي أن معلومتي ليست خاطئة. هذا هو المعنى الأول للعلم. أما المعنى الثاني فهو العلم الذي هو مجال يُدرَس كعلم الفيزياء، أو علم الاقتصاد، أو علم التاريخ. وهذا العلم يكون عبارة عن مجموعة من المسائل بينها قدر مشترك تُدرَس من حيثيته، فمثلاً علم الأحياء وعلم الفيزياء كلاهما يدرس أجسامًا، لكن علم الأحياء يدرسها من حيث كونها حية، وعلم الفيزياء يدرسها من حيث كونها متحركة. لذلك نفصل بين العلمين، لأن المسائل التي يدرسها الأحيائي غير المسائل التي يدرسها الفيزيائي، ومسائل كل علم من هذه العلوم ينبغي أن يكون بينها قدرًا مشتركًا هو موضوع ذلك العلم. إذن، العلم بمعنى المجال الدراسي، هو مجموعة من المسائل بينها قدر مشترك يكون هو الشيء الذي يعتني به هذا العلم، ومثال ذلك الحياة في الأحياء والحركة في الفيزياء.
هل ينطبق أي من هذين المعنيين على المسائل الدينية؟ ما أراه هو أن المعنيين ينطبقان. فالمعنى الأول الذي هو الإدراك الجازم المطابق للواقع ينطبق على المسائل الدينية ولنأخذ مسألةً أصليةً في الدين لا يختلف عليها مسلمَين وهي أن الزكاة مفروضة على المسلمين، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى طلبها مِنَّا طلبًا جازمًا. من عرف أن الزكاة فرض يكون عنده إدراك جازم مطابق للواقع بهذه المسألة وبالتالي ينطبق عليه في هذه المسألة تعريف العلم. كذلك الدين علم بمعنى أنه مجال يُدرَس لأنه مجموعة من المسائل التي بينها قدر مشترك، ففي الفقه مثلًا يكون هذا القدر المشترك هو أفعال المكلَّفين، والمكلَّف هو من يوجه الله إليه الخطاب. هل الفعل الفلاني فرض؟ أم أنه سنة؟ أم أنه جائز؟ أم أنه مكروه؟ أم أنه حرام؟ فأي مسألة ينطبق عليها أنها فعل من أفعال المكلَّفين يتم جمعها في مكان واحد وهو علم الفقه. وفي علم تزكية النفوس يكون القدر المشترك بين المسائل هو أحوال النفس الإنسانية وكيفية صدور التصرفات عنها، فتجمَّع المسائل المتعلقة بهذا الموضوع في مكان واحد ويكون هذا المكان علمًا اسمه علم تزكية الأنفس. بالتالي، ينطبق العلم بمعنى المجال الذي يُدرَس على المسائل الدينية.
وهنا يبقى سؤال: هل يوجد إنسان متخصص في العلوم الدينية ويسمَّى عالم دين؟ رأيي أن الإجابة نعم، لأنه ليست كل المسائل الدينية معلومة لكل إنسان، بل فيها ما يحتاج إلى بحث. فأنا لو سألت شخصًا لم يبحث في العلوم الدينية من قبل هذا السؤال: رجل وامرأة غير مسلمين، تزوجا قبل دخولهما في الإسلام ثم أسلما، هل يكون هذا الزواج صحيحًا أم لا؟ ربما يقول إنسان أن هذا الزواج غير صحيح لأن الزواج في الإسلام يُشترط فيه العقد والشهود والإشهار وما إلى ذلك، ويقول آخر أن هذا الزواج صحيح لأن الله سبحانه وتعالى اعترف بزواج أبي لهب من زوجته في قوله تعالى {وامرأته حمالة الحطب}. من المؤكد أنه لا يمكن أن يكون هذان الرأيان صائبان بل ينبغي أن يكون أحدهما صحيحًا والآخر فاسدًا، فيضطر الإنسان إلى النظر في المزيد من النصوص الشرعية ويبحث فيها حتى يجد جوابًا سالمًا من التناقض. هذا في مسألة واحدة من مسائل الدين، والإنسان في حياته يتعرض إلى مئات المسائل الدينية التي يحتاج لأن يعرف حكمَ الله فيها. هذا الإنسان إن فرَّغ حياته لهذا النوع من البحث، بالتالي يكون عنده علم في هذه المسائل أكثر مِن مَن لم يبحث في هذه المسائل أصلًا، فيصح أن نقول أن الإنسان (أ) أعلم من الإنسان (ب) في المسائل الفقهية، ويكون (أ) عالما ويكون (ب) غير عالم وسيحتاج إلى الرجوع لمن هو أعلم منه إلا إن قرر أن يتخصص هو الآخر.
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أنه لم يفرض على كل واحد منا أن يبحث هو في المسائل الدينية. بل تركنا ننشغل بتدبير أمور معيشتنا وأجاز لنا الرجوع إلى المتخصصين بشرط أن نجتهد قدر الإمكان في التأكد أن هذا المتخصص هو متخصص بالفعل، وأنه لن يغشنا في حكم الله. ولا يعني ذلك أن المتخصص وصي علينا في الدين، فإن العلماء يقولون أن الفتوى غير ملزمة. فنحن نستشير المفتي ونسأله عن حكم الله في المسألة الفلانية، أما أفعالنا فهي بيننا وبين الله لا دخل للمفتي بها. كذلك تخصص المفتي في العلوم الدينية لا يجعله أفضل من الإنسان العادي، فتفاضل البشر بين بعضهم البعض إنما يكون بالتقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، والتقوى أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله وبعض عباده الذين ارتضاهم لذلك {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا * إلا من ارتضى من رسول}.
ورأيي أن من يجعل العلم هو العلم التجريبي فقط فإنه يناقض نفسه. فهو الآن يطرح علينا معلومة وهي أن العلم التجريبي هو وحده ما يطلق عليه علم، فهل هذه المعلومة نتيجة علم تجريبي؟ هل أجرى هو تجربة فأفادته أن هذا هو العلم الوحيد أم أن هذه المعلومة ليست تجريبية؟ فإن لم تكن هذه المعلومة تجريبية لا ينبغي له أن يصدقها لأنه يصدق فقط ما هو تجريبي! فيكون هذا الرأي هادمًا لنفسه.
هذا رأيي في المسألة، وأرى أني قدمت دليلًا عليه، وأرحب بالنقد العلمي له وليس النقد المبني على العاطفة والمغالطات، واستدعاء النماذج المنفرة من علماء الدين، فكون بعض من اشتغلوا بالعلم الدين منفرين لا يعني أنه ليس بعلم، كما أنه ليس معنى أن الفيزياء أنتجت لنا القنبلة النووية أنها ليست علمًا. نحن في منطقتنا نفتقر إلى النقاش الفلسفي الحقيقي المبني على الأدلة المنطقية، ونحن إن شاء الله نرحب بكل نقاش يتصف بهذه الأوصاف ولا نضع للمواضيع المناقَشة سقفًا.