أ. أحمد الأزهري
باحث متخصص في تاريخ الفكر الفلسفي والتربوي في التراث الإسلامي
السؤال عن حقيقة النفس الإنسانية من الأسئلة الشائعة التي شغلت كثير من الأذهان خاصة مع الادعاءات المتكررة على ألسنة الملحدين الجدد أن النفس الإنسانية بمعناها المجرد عن المادة لا وجود لها، بل ما هي إلا خرافة! اعتمدوا هؤلاء فيما ذهبوا إليه على التفسيرات المادية المحضة لأبحاثٍ في العلوم التجريبية، تحديدًا في علم الأعصاب، تشير إلى أن ثمة صلة بين أجزاء معينة في مخ الإنسان وحالات ذهنية محددة، كالتذكر أو التخيل أو التفكير المنطقي، إلى غير ذلك.
ونحن إذا أردنا أن نجيب عن هذا السؤال إجابةً حقيقيةً علينا أن نتعامل معه بشكل موضوعي، ولا يتأتى لنا ذلك إلا إذا عيَّنَّا أولًا نوع السؤال حتى نتمكن من محاكمة الأجوبة المقدمة على السؤال وفق معايير مناسبة وقواعد فكرية ملائمة لطبيعة السؤال. ونحن في هذا المقال ندعي أن السؤال عن جقيقة النفس البشرية ليس سؤالًا تجريبيًا، وإنما هو سؤال فلسفي، والسبب في ذلك يعود إلى أمرين:
الأمر الأول: أننا إذا كنا أمام ظاهرة من الظواهر ولدينا نظريتان لتفسيرها، النظرية (أ) والنظرية (ب)، وبين النظريتين مكافأة، يعني لا يمكن من حيث المشاهدة والبحث التجريبي أن نرجح إحدى النظريتين على الأخرى، وهي الحالة التي يعبر عنها في الإنجليزية بـ(Empirically Equivalent Theories) وجب علينا حينئذ أن نلجأ إلى البحث العقلي. فإذا حاولنا تفسير ظاهرة الوعي الإنساني على وجه الخصوص سيتحصل لدينا أثناء البحث نظريتين، الأولى تدعي أن الكينونة الإنسانية، أو الوعي البشري، أو المشار إليه بـالـ(أنا) هو عبارة عن التفاعلات الكيميائية داخل المخ، والنظرية الثانية تقول أن نفس الإنسان – أو الروح – ليست مادية، وأن النفس تستعمل المخ كآلة أو أداة للوعي والإدراك. وهاتان النظريتان لا يمكن الترجيح بينهما في المعامل أو بواسطة الملاحظات والمشاهدات الحسية والتجارب الرقمية. وبالتالي ليس أمامنا في هذه الحالة إلا أن نلجأ إلى البحث العقلي المحض.
الأمر الثاني: وهو أظهر من الأول، وهو أن النفس – عند مَن أثبتها – ليست شيئًا ماديًا بحيث يكون نطاق البحث عنها في العلم التجريبي، فلا يصح حينئذ أن يعارضهم معارض بدعوى أن العلم التجريبي أثبت أنه ليس ثمة نفس مجردةً عن المادة، وأن الوعي ما هو إلا تفاعلات للذرات في المخ، لأن العلم التجريبي ليست له مجال للنظر في غير الماديات، بل إن العلم التجريبي المعاصر يعتنق مبادئ فلسفية من جملتها أنه ليس ثمة إلا المادة، أو في أفضل الأحوال أنه ليس في إمكان البشر إدراك غير الماديات، وترتيب على ذلك أنه كلما تكلم فيلسوف أو عالم دين في شأن أمر من الأمور غير المادية، عارضوا – وربما هاجموه وسفهوا من قوله – بدعوى أن كلامه ليس كلامًا «علميًا»! وقد ذكرنا في مواضع أخرى أن دعوى أن الوجود منحصر في الماديات، أو أن غير الماديات غير موجودة أو غير قابلة للإدراك، لا يمكن إثباتها بالتجارب العلمية، لأنها مقدمات فلسفية يبحث عنها بواسطة العقل والمنطق في أروقة الفلسفة ومؤلفاتها.
وبعد أن عيَّنَّا طبيعة السؤال الذي نحن أمامه، علينا أن نمهد للإجابة عليه بمقدمتين:
المقدمة الأولى: وهي مبدأ عقلي، يعرف بمبدأ ماهية الأشياء غير المتميزة، أي: التي لا تمايز بينها ولا اختلاف، ويعبر عنه باللغة الإنجليزية بـ:
The Identity of the Indiscernibles
أو بـ:
The Indiscernibility of Identicals
أي: عدم تميز أو عدم اختلاف المتماثلات. وهذا المبدأ يقول أننا لو ادعينا أن (أ) (ب)، بمعنى أن (أ) هو هو (ب)، أي أن (أ) ليس إلا (ب)، وأننا إذا لم يكن لدينا إلا شيء واحد، وهذا الشيء هو (أ) فهو أيضًا (ب). وإذا كان الأمر كذلك، فكل ما يصدق على (أ) يصدق على (ب) والعكس، وكل ما يمكن أن يصدق (أ) يمكن أن يصدق على (ب) والعكس، ولا يجوز أن يصدق شيء على (أ) ولا يصدق على (ب) والعكس، ولا يمكن شيء في حق (أ) لا يمكن في حق (ب) والعكس.
وحتى نفهم هذا القانون بشكل أعمق، نضرب له مثالًا: إذا ادعينا أن أحمد الكاتب هو أحمد المحاضر، فإذن.. إذا قلنا: أحمد الكاتب طوله 178سم، فيلزم أن يكون أحمد المحاضر أيضًا طوله 178سم، ولا يصح أن نقول: أحمد الكاتب طوله 178سم، وأحمد المحاضر من الممكن أن يكون طوله 178سم أو 179سم.
المقدمة الثانية: وهي أيضًا قانون عقلي، وهو أنه لا يلزمنا أن نحكم بين أمرين بالتساوي لمجرد وجود علاقة تساوق أو سببية بينهما. فمثلًا بين النار والدخان علاقة سببية، فنحن نستنبط من وجود النار أن يكون لها دخانًا، ونستدل بالدخان على وجود النار، وهذا لا يعني أن الدخان هو النار ولا العكس.
إذا نظرنا – بعد بيان هاتين المقدمتين والتسليم بهما – في دعوى الماديين الاختزالية القائلة بأن وعي الإنسان وإدراكه ما هو إلا تفاعلات كيميائية في المخ، وأن الذات الإنسانية ليست نفسًا مجردةً عن المادة متصلة بالبدن وإنما هي مجرد صورة خاصة من اجتماع الذرات، وجدنا أن هذه الدعوى ساقطة للأدلة التالية:
أولًا: المخ – كسائر الأمور المادية – يقبل التجزئة. فيمكننا أن نصف المخ بكونه (100%) أو بكونه (60%) أو بكونه (10%) أو نحو ذلك، كما في بعض الحالات المرضية النادرة مثل (Dandy-Walker Syndrome).
وهذا الإطلاق لا يصح في حق ذات الإنسان أو نفس الإنسان، إذ لا يقول الواحد منا (70%) من ذاتي، أو (50%) من نفسي! فالنفس البشرية إذن ليست هي هي التفاعلات في المخ، ولا هي هي المخ.
ثانيًا: المخ وما يحتويه من الأشياء المادية، ولا يجوز في النظر العقلي أن يكون المخ شيئًا غير مادي، لأنه جِرم معيَّن لدينا، بخلاف النفس، فإنها – من حيث النظر العقلي – يجوز أن يجوز أن تكون شيئًا مجردًا، ولا يستحيل – من حيث النظر العقلي – أن يكون للنفس البشرية وجود غير مادي. فنحن إذا افترضنا أن النفس البشرية ليست هي الهيكل المادي ولا هي عرض من أعراضه مثل التفاعلات الكيميائية في المخ لا يعتبر افتراضنا هذا مثل افتراض وجود دوائر مربعة! فنحن نعلم بالضرورة أن الدوائر المربعة مستحيلة في ذاته، بل ربما حاولنا تخيل صورة ذهنية للدوائر المربعة وعلمنا أن هذا غير ممكن البتة، بخلاف أن نقول أن نفس الإنسان مجردة عن المادة، فنحن في هذه الحالة وإن لم نتخيل صورةً معينةً للنفس، لأنها غير مادية، وبالتالي لا نستطيع أن نستجلب صورةً ماديةً لها، إلا أننا نستطيع في الذهن أن نميزها عن الأشياء المادية ولم يحكم عقلنا بعدم وجودها بالضرورة، كما في حق الدوائر المربعة. فإذا تبين لدينا مجرد إمكان أن تكون النفس غير مادية، وتبين لدينا ضرورة أن يكون المخ وتفاعلاته من الأمور المادية، حكمنا بأن النفس ليست هي المخ أو عرض من أعراضه، لأجل قانون الهوية الذي سبق أن شرحناه في المقدمة الأولى. فلو كانت التفاعلات في المخ هي هي النفس، لما جاز أمر في حق النفس ولم يجز في حق المخ أو عوارضه.
ثالثًا: أن الشيء المادي المركب من أجزاء إذا تغير أحد أو بعض أجزائه أصبح شيئًا جديدًا ومختلفًا عما كان عليه في السابق ولا يعتبر هو هو. وهذا مبدأ فلسفي يعرف في اللغة الإنجليزية بـ(Mereological Essentialism) وقد أشار إليه الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله في بعض رسائله. ولكي نفهم هذا المبدأ بشكل أكبر نضرب له مثالًا:
إذا اعتبرنا أن الشيء المادي المركب الذي نتكلم عنه هو كرسي خشبي، فهذا الكرسي إذا كسرنا ظهره واسبتدلناه بظهر جديد مصنوع من الحديد والجلد مثلًا، أصبح لدينا كرسي جديد، ليس هو هو الكرسي الخشبي الذي اعتبرناه أول الأمر. فكذلك جسد الإنسان، فإنه يطرأ عليه التبديل، إذ تستبدل أجزاء كثيرة من بدن الإنسان مع مراحل النمو المختلفة، ومع ذلك لا تتبدل الذات. فبخلاف الكرسي الذي إذا تبدلت أجزاؤه أصبح كرسيًا آخر، بينما الإنسان إذا تبدلت أجزاء من جسده لا يصير بهذا التبديل إنسانًا آخر. فعلم بذلك أن المشار إليه بالـ(أنا) – أي: النفس البشرية – ليست أمرًا ماديًا.
رابعًا: الأبحاث التجريبية التي اعتمد عليها بعض الملحدين لأجل اختزال النفس البشرية في التفاعلات الكيميائية في المخ يمكن تفسيرها بصورة مختلفة. فإننا مثلًا إذا شاهدنا عازف البيانو أثناء عزفه لمقطوعة موسيقية، لا نقول أن العازف هو هو البيانو، أو أن العزف هو هو العازف، لمجرد أن هناك تساوق أو سببية بين عزف العازف على البيانو والموسيقى الصادرة عن البيانو. وكذلك إذا تعطل البيانو أو تعطل جزء من أجزائه بحيث ترتب على ذلك خلل ما في المقطوعة الموسيقية لا نختزل العزف في البيانو أو ندعي عدم وجود العازف لمجرد ملاحظتنا للسببية بين تعطل جزء من البيانو والخلل في المقطوعة الموسيقية. فكذلك الأبحاث التي اعتمد عليها بعض الملحدين في دعواهم عدم وجود نفس غير مادية للإنسان. بعض هذه الأبحاث يشير إلى تعطل وظائف ذهنية معينة – كالذاكرة مثلًا – بسبب إصابة أجزاء معينة في المخ بخلل ما. وبعض آخر يشير إلى أن تنشيط مواضع معينة في المخ يؤدي إلى تنشيط وظائف ذهنية معينة. فحكموا – أي: بعض الملحدين – أن النفس البشرية هي التفاعلات داخل المخ! وهذا الحكم لا يعود لمجرد الرصد المعملي لهذه الظواهر الدماغية، لأنه يجوز – من حيث النظر العقلي – أن النفس البشرية المجردة عن المادة تستعمل المخ كآلة للإدراك، كما يستعمل العازف البيانو. وبالتالي إذا اختلت المخ اختل الإدراك، كما إذا اختل البيانو اختل العزف. ولا يلزم من ذلك نفي وجود العازف، كما لا يلزم من ذلك نفي وجود النفس المجردة بالضرورة. وفي الحقيقة الذي جلب عليهم هذه النظرة الاختزالية ليست الأبحاث المعملية بذاتها، وإنما المقدمات الفلسفية التي تلقفوها مسلمة دون بحث أو تحقيق، وهي أن الوجود منحصر في الماديات.
ثم لا ننسى أن الدخان ليس هو النار، وليس لأن ثمة تساوق أو سببية بين الدخان والنار، نحكم بأن الدخان هو النار. وبالتالي ليس لأن بين أجزاء معينة في المخ ووظائفة ذهنية معينة تساوق أو سببية نحكم بأن الوعي هو هو تفاعلات المخ، غاية الأمر أنا نقول إن للمخ مدخلية في الوعي البشري، وهذا لا ينفيه أهل الأديان الذين أثبوا للإنسان نفسًا مجردةً عن المادة، بل بعض الفلاسفة والمتكلمين ذكروا في مؤلفاتهم منذ عشرات القرون أن النفس تتخذ المخ آلة للإدراك، وعيَّنوا على في كتبهم – بشكل مفصَّل – للوظائف العقلية المختلفة – مثل: التذكر والتخيل ونحوهما – مواضع معينة في المخ.
وفي الختام: يظهر لنا أن الأبحاث التجريبية تفسر دائمًا في ضوء رؤية كونية أو وجودية (World View)، وتلك الرؤى أولى بالنقاش والتباحث، إذ لا معنى للبحث في الجزئيات والفروع دون النظر والبحث في الأصول. ولكن كثرة التشغيب في المسائل الفرعية تضطرنا إلى الخوض في مسائل فرعية مع مَن يختلف معنا في الأصول. والباحث الصادق الممتثل لسلطان العقل الحائد عن الهوى لا يبحث في خلاف فرعي دون ملاحظة لجذره وأصله.