كتبه: محمد سامي
شاهدت حلقة تلفزيونية على قناة فرنسية كانت تناقش قانون ازدراء الأديان في العالم العربي. استضافت الحلقة في داخل الستوديو الأستاذ إسلام بحيري، والأستاذة زينب الغزوي صحفية عربية علمانية مقيمة في فرنسا. وعبر القمر الصناعي كان يشاركهم في الحوار أب لبناني، والدكتور عبد الفتاح العواري من جامعة الأزهر.
في أثناء الحوار، صرحت الأستاذة زينب أن الأديان هي مجرد أفكار أو أيديولوجيات، بالتالي ليست لها قداسة تمنع من نقدها. وقالت للأستاذ بالأزهر أنه لو سافر إلى فرنسا ودخل في نقاشات في علم الاجتماع لعلم أن الأديان هي مجرد مرحلة في تاريخ البشرية. قدمت الصحفية هذا الكلام على أنه هو الحق الذي أثبته العلم. والحقيقة أن هذا الذي طرحته الأستاذة ما هو إلا فكرة مزعومة، من حقنا أن نناقشها ونرفضها تمامًا إن أثبتنا أنها لا تقوم على أسس سليمة.
فكرة أن الأديان هي مرحلة تمر بها المجتمعات البشرية ترجع في تأصيلها إلى الفيلسوف الفرنسي أوغوست كومت الذي يعتبر رائد علم الاجتماع الحديث. كومت كان يرى أن هناك مراحل ثلاث يمر بها المجتمع الإنساني: المرحلة اللاهوتية(The Theological Stage)، ثم المرحلة المتافيزيقية(The Metaphysical Stage)، ثم المرحلة الإثباتية(The Positivist Stage). هذا التنظير مبني على عدة تطورات في الفكر الأوروبي لا يسعني أن أناقشها الآن لكن يسعني أن أقول أنها تفترض كون الأديان ليست حقائق. ذلك لأن فلاسفة أوروبا في عصر التنوير لم ينجحوا في توفير أدلة يقينية على وجود الخالق وصحة المعتقد الديني، وبالتالي اعتبروا الدين دعوى مثلها مثل أي دعوى أخرى، إن لم توفر دليلًا على صحتها فإنها تصبح مجرد فكرة يقبلها من يقبلها ويرفضها من يرفضها ليست لها مزية على غيرها. ثم تطورت الفكرة إلى أن أصبح الدين – في نظرهم – مجرد ظاهرة اجتماعية قبلتها المجتمعات لفترة معينة نظرًا لحاجات لديها لتفسير الكون، ثم مع التطور العلمي اختفت هذه الحاجات ولم تصبح للبشرية حاجة إلى الأديان فانتقلت البشرية إلى المراحل التالية للمرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الإثباتية التي لا تؤمن إلا بما تثبته التجربة العلمية الحديثة.
إذا نظرنا إلى هذا العرض الموجز لكيفية الوصول إلى فكرة كون الأديان مرحلة تاريخية، نجد أن هذا الصرح الفكري يقف على أساس أصلي وهو عدم وجود دليل على صحة الأديان، وبالتالي إن انهدم الأساس الأصلي انهدم معه الصرح. ونجد أن من يطالبنا بتقبل فكرة أن الأديان ما هي إلا مرحلة تاريخية يطالبنا أن نوافق ضمنيًّا على فلسفة كومت، وعلى فلسفة أستاذه سان-سيمون، وعلى فلسفة كانط من قبلهما، وعلى فلسفة هيوم وديكارت من قبله.
هؤلاء الفلاسفة الكبار يقدَّمون إلينا على أنهم مفكرون مقدسون لا يتأتى إلينا أن نراجعهم أو نراجع أفكارهم، وإلا ألصقت بنا اتهامات مباشرة بالجمود والرجعية ومعاداة تقدم البشرية. العجيب أن التيار الذي يقدم هذه الأفكار على أنها هي المسار الذي لا بديل له ويعتبر أفكار فلاسفة التنوير حقائق عليا تسمو على النقد هو نفسه التيار الذي ينتقد من يعامل أفكار الشافعي والغزالي وابن عربي نفس المعاملة وإن كنت أرى أن من يتبع الشافعي والغزالي وابن عربي أكثر اتساقًا مع نفسه. ذلك لأنه لا ينكر أنه تابع لغيره، أما من يقدسون فلاسفة التنوير فهم مع تقديسهم لبعض الأفكار يوهمون أنفسهم أنهم متحررون لا يتبعون إلا عقولهم.
قال لي أستاذي في الفلسفة يومًا أنه لا تقليد في العقليات، وأننا في المسائل الفلسفية لا نتبع إلا الدليل، ولا نأخذ برأي الغزالي لأنه الغزالي لكن نأخذ برأيه لأنه صائب. وأنا أدعو أصحاب التيار التنويري إلى نقاش فلسفي حقيقي، لا يسلِّم لأفكار فلاسفة بأعينهم بل يتبع الدليل أينما كان، وتكون فيه مناقشة أصول المسائل الفكرية تحت قانون واحد فقط هو المنطق.
أنا لا أؤمن أن الأديان مجرد مرحلة تاريخية لسببين: السبب الأول هو أنني أمتلك أدلة عقلية يقينية على صحة المتقدات الدينية، والسبب الثاني هو أنني لا آخذ كلام أوغوست كومت على أنه مسلَّم، كذلك كلام هيغل وكانط وديكارت. هؤلاء جميعًا بالنسبة لي بشر ليسوا معصومين مهما كانت مكانتهم الفكرية والتاريخية.