هل أنوار النبوة ما زالت مستمرة؟
د.عزة رمضان العابدة
مدرس العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر
منذ بداية التاريخ الإسلامي، وبين حين وآخر، يخرج علينا من يدّعي أنه نبيٌّ يتلقى الوحي من عند الله، ومؤيَّد ب”المعجزات” التي يريد أن يثبت بها صدق دعواه، بداية من مسيلمة الكذاب، وسجاج الكاهنة التي تزوجت من مسيلمة حتى لا تخرج النبوة منهما، والأسود العنسي وطليحة بن خويلد الأسدي، مرورًا بغلام أحمد القادياني ومن على شاكلته، ووصولًا إلى نشأت مجد النور. ربما كان السبب في ذلك محاكاة العرب النبوة بالملكية والسطوة، وهو المفهوم الذي كان راسخًا عند اليهود قبل ظهور الإسلام، فالنبوة كانت ولا زالت في نظر البعض بمثابة سلطان يُفرض على الناس ليفرض عليهم الخضوع والاتباع.
وقد أخبرنا النبي الكريم أن هذا الأمر لن يتوقف، بل عدَّه صلى الله عليه وسلم من أمارات الساعة وأشراطها؛ حيث قال: ”إنَّ بين يدي السَّاعة ثلاثين كذاباً دجَّالاً كلّهم يزعم أنَّه نبيّ”، وقال: “سَيكونُ في أمتي ثلاثونَ كذابون كُلُّهم يزعمُ أنّه نبي، وأنا خاتمُ النبيين لا نبيّ بَعدي”.
ختم النبوة به صلى الله عليه وسلم:
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن ختم الأنبياء بسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم الذي قال:” أعطيت خمساً لم يُعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلت ليَ الأرضُ مسجداً وطهوراً، فأيما رجلٌ من أمتي أدركَته الصلاة فليصلّ، وأُحلت لي المغانم ولم تُحلّ لأحدٍ قبلي، وأعطيتُ الشفاعة، وكان النبي ُيبعث إلى قومه خاصة وبعثتُ إلى الناس عامة” فهذا مما وقع التصريح به، كما جاء أيضا في قوله تعالى: “مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” الأحزاب:40. وجاءت معجزته صلى الله عليه وسلم في عين رسالته؛ في كتاب “لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” فصلت:42، فكانت رسالته صلى الله عليه وسلم فيها الكفاية التامة بحاجات النوع الإنساني.
وإذا تأملنا في قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ” التوبة:33، سنجد فيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مركز الهداية التي امتدت آثارها إلى الكون عامة، بدليل توسل آدم عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده، كما روى أبو الفرج ابن الجوزي بسنده إلى ميسرة قال: قلت: يا رسول الله متى كنتَ نبيًا؟ قال: لما خلق الله الأرض واستوى الى السماء فسوّاهن سبعَ سماوات وخلق العرش وكتب على ساق العرش محمدُ رسول خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلما غرّهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه”. بل إن من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم أن عُرج به إلى السماء حتى تنال السماء ومن فيها نصيبا من الصلة به. حتى إن تراتبَ الناس وتميزهم مرتبطٌ بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: “خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ”.
تنوع طرق المعرفة:
إن النبوة على وحدة مصدرها ومنهجها وغايتها، إلا أن طرق الإيمان بها متعددة؛ نظرًا لتنوع المشارب وتفاوت الأزمان والعصور. وباستقراء المعارف والعلوم نجد أن هناك بعض المعارف العليا والتصورات الكلية التي لا يستطيع العقل إدراكها بمفرده، كما أن الحواس غير قادرة على الوصول إليها، والتي تعرف بما وراء المادة (الميتافيزيقا) أو الأمور الغيبية، لذلك كان لا بد من مصدر ثالث يمدّنا بمثل هذه المعارف، هنا يأتي دور النبوة والوحي الإلهي، لتتكامل المعرفة الإنسانية، وتكون نورا على نور. لذلك قال علماء الكلام الإسلامي: إن أسباب العلم الحصولي ثلاثة: الحواس السليمة، والعقل، والخبر الصادق (الوحي). فكمال الإيمان عندنا ليس مبنيًا على الجانب العقلي فقط، بل إن الأخبار السمعية والمرويات لها دور في رسم التصورات الكاملة في إيمان المسلمين. ذلك لأن ماهية الإنسان من المنظور الديني أعمق وأوسع بكثير من التعريف الذي وضعه المناطقة والفلاسفة؛ إذ أنها تشتمل على جوانب ثلاثة “البدن والعقل والروح”، حاصل مجموع هذه الثلاثية هو الذي يقود الإنسان للسؤال والبحث في الموضوعات النهائية والأسئلة الوجودية، كالسؤال عن ماهية الوجود وحقيقته، وعن المبادئ والعلل والغايات؛ ليعرف الإنسان من أين جاء وإلى أين سيصير، وماذا ينبغي أن يكون.
وجه الحاجة إلى النبوة:
إذا نظرنا وتأملنا في الوجود فلن نجد إلا خالق ومخلوق، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق وكل ما سواه مخلوق، ومن فضل الله على خلقه أنه لم يتركهم هَمَلا دون توجيه وإرشاد، وهو سبحانه يعلم ضعفهم ومحدودية قدراتهم واختلافهم فيما بينهم. كيف لا وقد جعل سبحانه هذا الاختلاف سنة من سننه في خلقه، قال تعالى: ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ” هود: 118. وكان من رحمة الله بعباده أن اصطفى بعضًا منهم ليبلغوا رسالاته ويعرّفوا الخلق به؛ بمعرفة صفاته واسمائه وأفعاله سبحانه، وكذلك أوامره ونواهيه ليكون الناس على بينة في صلتهم بخالقهم، قال تعالى: ” لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ” الحديد: 25.
ويخبرنا المولى عز وجل عن تلك الفئة التي تنكر حاجة البشرية إلى أنوار النبوة قائلا سبحانه: “أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ” تونس:2، فالنبوة إذًا منحة إلهية فيها صلاح للإنسان في معاشه ومعاده؛ يتجلى ذلك في ضبط السلوك الإنساني وتحريره من التقليد الأعمى ومن أسر الخرافات والأوهام ليتحقق له الأمن والطمأنينة والسعادة مصداقا لقوله تعالى: “رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا” النساء: 165، فالرسل والأنبياء هم السبيل لتعريف الناس بالغاية التي من أجلها خُلقوا، وبالمصير الذي سيؤول اليه أمرهم، وما يحتاجون إليه بين هذا وذاك، مما لا يستقل العقل البشري بمعرفته من خلال تصور كلي ثابت يتوافق مع واقع الانسان ومتطلبات وجوده ورسالته.
آثار النبوة والهداية باقية:
ورد عن الحكيم الترمذي في كشف المحجوب أن آثار النبوة وحجة الله على الخلق باقية ولا بد من أن تستمر، لكن كيف تستمر؟ تستمر بالأولياء والعلماء والصالحين الذين يمثلون امتدادًا للنبوة؛ فيستمدون من أنوارها ويمدون الخلق بقبس منها، فالعلماء ورثة الانبياء وحملة الدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحِريفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”. وكما يقول الفضلاء: إن خلافة الله في الارض ما نقصت في عصر ولا مصر؛ ما نقصت على نوح عليه السلام ومعه الثمانون، ولا على من يأتي ومعه الرجل والرجلان من الأنبياء، حقًا خلافة الله لم تكن ناقصة في دار الأرقم ابن أبي الأرقم. خلافًا لمن ينظر للنبوة والخلافة على أنها حكم وملك، ويأخذونها إلى حيز التأثيرات السياسة والسلطة، فإن ذلك يمحق فهم الدين بشكل سليم، بينما الأَوْلى أن نبقيه في جانب الهداية والرشاد وحسن الصلة بالله عز وجل.
إن العبودية الحقة لن تتحقق إلا من باب متابعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن إصلاح النفس البشرية معلَّقٌ على وجود المَثَل، وهو صلى الله عليه وسلم النموذج الأعظم وقمة ذروة سنام معنى التحقق بالعبودية. وعليه فكل عمل يتقرب به إلى الله عز وجل إذا لم يثمر في قلب المتقرب زيادة صلة بجناب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالمحبة والتعظيم والمتابعة، فإن هذا العمل لم يؤت كمال ثماره لهذا الإنسان، وإن أحسنه وأتقنه مصداقا لقوله تعالى: ” قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ..”
ما أعظم قول الإمام الجيلاني في هذا الصدد: “اتّبع الرسول؛ حتى يحملك المرسِل، واقترب منه؛ حتى يقربك من الحق”. فالنبوة إذًا ليست سلطة والدين ليس تسلطا كما يصوّره البعض، بل هو اقتفاء آثار النبوة التي هي الكمال الانساني على مر الزمان. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركنا في حالة فراغ ننتظر من يأتي بعده ليملأه، بل تمّ إعلان التمام والكمال في قوله تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” المائدة: 3. وكان النبي الخاتم هو الرحمة المهداة للبشرية جمعاء “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ” التوبة: 128، “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” الانبياء: 107.