كل واحد منا يعلم من نفسه أنه وجد بعد أن كان معدومًا، بل يشاهد ذلك في غيره. وهذا المعنى جاء في القرآن الكريم في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1]، وأيضًا في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 9].
وكذلك كل منا يشاهد النبات يوجد بعد العدم. قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5].
وهكذا الحال في سائر ما نراه ونحسه من الموجودات في هذا الكون. ومع ذلك قد يسأل سائل السؤال التالي، فيقول: لما لا يجوز أن يكون الكون قد أوجد نفسه من العدم؟
ونحن نقول في الجواب عن هذا السؤال من ثلاثة أوجهٍ:
الوجه الأول: أن صنع الشيء لنفسه مستحيل، لأن الصانع يجب أن يتقدم على المصنوع، ولا يتقدم الشيء على نفسه، وقد نبه الله تعالى على بطلان ذلك في قوله عز وجل: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35].
وأنت إذا تأملت هذا المعنى ولاحظته في نفسك أدركت أن علمك بنفسك لم يتقدم على وجودك، فكيف يمكن أن تكون أنت صانعها؟! وهكذا شأن سائر المصنوعات ومنها الكون الذي نحن فيه. وفي هذا المعنى قال الله تبارك وتعالى: ﴿مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ [الكهف: 51].
الوجه الثاني: أن المصنوعات على نوعين.
النوع الأول: ما يقدر على البشر صنعه كالبناء والنجارة ونحو ذلك.
والنوع الثاني: ما لا يقدر البشر على صنعه، كصنع إنسان من الماء أو إخراج الفاكهة من الخشب ونحو ذلك. ولا شك أن النوع الأول يفتقر إلى صانعه، فإنك إذا رأيت كرسيًا علمت أن له صانعًا صنعه من الخشب، وإذا رأيت بيتًا مبنيًا علمت أن حيطانه وسقفه لم تتكون بنفسها. فكذلك النوع الثاني يدل على صانعه لا محالة، بل دلالته على صانعه أقوى وأمتن وأشد، لأن صنعته أعجب وآثار الحكمة فيه أظهر وأوضح. قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾ [ق: 6]. وقال الله عز وجل: ﴿مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ۞ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: 3 – 4].
فإن قيل: ولكننا نرى في العالَم البراكين والزلازل، أليس هذا تفاوتًا؟!
قلنا: لو فرضنا أنه كذلك، فهذا التفاوت إنما هو واقع في العالَم، والعالَم مخلوق لله تعالى، والله سبحانه وتعالى نفى في الآية الكريمة التفاوت عن الخلق وهو فعل الصنع، لا عن المخلوق وهو المصنوع.
فإن قيل: أليس التفاوت في المخلوق تفاوتًا في الخلق والخالق؟!
قلنا: لا، لأن قصور الصانع إنما يلزم من القصور في الصُنع لا من القصور في المصنوع، لأن القصور في المصنوع قد يكون دليلًا على كمال الصانع. وهذا كالمصور المتقن الذي يلتقط صور حادث مروّع، فإن ترويع المشاهد التي التقطها وقبحها ليس دليلًا على قبح التصوير، بل جودة التصوير التي نقلَت الحدَث بتفاصيله تدل على احترافية المصور ومهارته الفائقة. ولقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي رضي الله عنه فقال: «لا ينكر الباطل في طوره، فإنه من بعض كمالاته». يعني أن وجود الشيء المستبشع في موضعه لا ينكر، بل وجوده في موضعه كمال!
الوجه الثالث: أن الشيء المصنوع يجوز في نظر العقل أن يكون موجودًا، ويجوز أيضًا أن يكون معدومًا. فجهاز الكمبيوتر الذي ربما تقرأ منه هذا المقال قبل أن يوجد كان في نظر العقل شيئًا ممكنًا، أي يجوز وجود جهاز من مواصفاته أنه كذا وكذا، ويجوز أيضًا عدم وجود ذلك الجهاز. ولكن الجهاز موجود بالفعل، وهذا يدل على أن وجوده ترجَح على عدمه، والترجُح بغير مرجِح مستحيل، فلابد أن يكون هناك من رجَّح وجود الجهاز على عدمه. وهذا المعنى إذا صدق في حق الكمبيوتر فهو من باب أولى صادق في حق الكون. فإنه يجوز في نظر العقل وجود هذا الكون ويجوز أيضًا عدمه. ولولا ترجح وجوده على عدمه ما وجد بالفعل. قال الله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص: 68].
فتبين لنا بنور العقل ونور القرآن من خلال هذه الأوجه الثلاثة أن المصنوع لابد له من صانع، والحمد لله رب العالمين. اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا بمعرفة العلم، وحسن أخلاقنا بالحلم، وسهل لنا أبواب فضلك، وانشر علينا من خزائن رحمتك يا أرحم الراحمين.