كيف نتأكد من بطلان فكرة أزلية الكون؟

كيف نتأكد من بطلان فكرة أزلية الكون؟

قضية وجود الكون هل له بداية أم لا، هي قضية مهمة كثر فيها الجدل في أوساط الفلاسفة والمفكرين والعلماء، والكلام حولها ليس بجديد، فهناك الكثيرون ممن قالوا بحدوث الكون وهناك من عارضوهم بأنه أزلي، وقد حاول كل فريق ان يستدل على رأيه في هذه القضية سواء بأدلة عقلية منطقية ام بأدلة علمية طبيعية. وقبل ان نستعرض رأي كل فريق ومحاولات استدلاله والاعتراضات التي وجهها كل فريق للأخر، لا بد من التنبيه على ان الكلام هنا موجّه على مادة الكون هل هي أزلية ام حادثة؟ وبالتالي هل هي مخلووقة ام لا؟

اذن لدينا عدة محاور يتعلق بها هذا السؤال:

  • معنى الأزلية مطلقا وأزلية الكون على وجه الخصوص، ويستلزم ذلك تعريف الحادث ايضا.
  • مسألة نشأة الكون وهل هو مخلوق أم لا.
  • اذا ثبت لدينا انه مخلوق فلا بد له اذن من خالق.

هذه مسائل ثلاثة لا بد من مناقشتها بالترتيب لنخرج منها بالاجابة على السؤال المذكور.

أولا معنى الأزلي والحادث:

الأزلي بمعنى القديم أي ما لا أول له، ولا بداية لوجوده، وان كان هناك من يفرق بين القديم والازلي. والقديم على الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فهو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، لانه سبحانه الاله الخالق. وأما الحادث: فهو ما كان وجوده مسبوقاً بالعدم، أي لم يكن موجوداً ثمَّ وجِد بعد ذلك. وبعبارة أخرى: القديم لا بداية له، والحادث له بداية، أو ان شئت قلت: القديم لم يسبقه زمان، بل الزمان منفيٌ عنه قطعاً، أمّا الحادث فقد سبقه الزمان، بحيث لم يكن موجوداً، ثم وُجد.

والموجود الأزليُّ والأبديُّ هو الموجود الذي ليست له بداية، أي القديم غيرُ الحادث؛ لأنّ وجودَه بذاته ومِن ذاته، فهوَ الغنيُّ في وجودِه غيرُ المفتَقِرِ إلى أيّ شيء آخر، فاعلٌ غير منفَعِل، مؤثِّرٌ غير متأثّرٍ؛ ليستْ لهُ نهايةٌ، وليس محَلّاً للحوادث والتغيّر والتبدُّل والتحوّل.

هذا المعنى للأزلي متّفَقٌ عليهِ بين المؤمنين والماديين؛ فالإلهي يؤمنُ بأنّ الخالقَ لا بدّ أنْ يكونَ أزليّاً أبديّاً، وقد أقام على ذلكَ الأدلّة العقليّة والنقليّة والعلميّة على أنّ الله تعالى واجبُ الوجود أزليٌّ أبديٌّ غنيٌّ بذاتِه. أمّا الماديُّ فهوَ يدّعي ذلك في المادة، لكنهُ مُجرّدُ إدّعاءٍ و لم يُثبِتْ ذلكَ بدليلٍ لا مِنَ العقل ولا من العلوم الحديثة. والحقيقة أنّ المُطالَبَ بالدليل والإثبات هو المُدّعي لأزليّة وأبديّة الكون.

ثانيا : نشأة الكون والادلة على ذلك:

لدينا اولا بعض الأطروحات المادية يقولون فيها:

نحن نؤمن بأن الكون له بداية، لم يكن ثم كان، لكن ليس بالضرورة أن نذهب إلى فرضية الإله، بل عندنا فرضيات أخرى منها:

الفرضية الأولى: فرضية العدم.

وهي أن هذا الكون وُلِد من العدم، لماذا تفترضون أن له موجد؟ وُلِد من العدم، صار هكذا وانتهى الأمر. الكون وُلِد من العدم، وُلِد الشيء من اللاشيء.

هذه الفرضية طبعا غير معقولة، فالعقل يكذّبها، لأن العدم لاشيء، واللاشيء لا يولّد شيئًا.

الفرضية الثانية: فرضية الصدفة.

وُلِد الكون صدفة، صدفة صار هكذا، لا نقول: وُلِد من العدم، حتى تقولوا: غير معقول، وإنما نقول: حدث الكون صدفةً. ومعلوم ان احتمال الصدفة احتمال غير علمي، لا يمكن أن يبنى عليه استدلال ولا علم، لماذا؟

أنت تقول: حدث الكون فجأة، كأنك تقول: عندك مخزن خردة، خردة سيارات مثلًا، صار في المخزن انفجار، نتيجة الانفجار حدثت طائرة نفاثة من طراز 17 صدفة! لو قال لك شخص ذلك لما قبلت بذلك. أو شخص يقول لك مثلًا: أنا عندي مطبعة، صار فيها انفجار، ونتيجة الانفجار في المطبعة وُلِدَ قاموس لغوي جديد صدفة، هل تتقبل هذا الاحتمال؟! أو يقول لك مثلًا: عندي كمبيوتر، فجاءت بعوضة ومرت على حروف الكمبيوتر، ونتيجة عبث البعوضة وُلِدت شعيرة بديعة أروع من شعر المتنبي، صدفة! احتمال الصدفة احتمال غير علمي.

ولذلك يعلّق الفيلسوف «كولينز» على هذا الاحتمال الذي يقول بأن الكون حدث صدفة، يقول: الصدفة احتمالها «10/1» ^ «- 123» وهو رقم لا يمكن تحققه، بل لا يمكن حتى كتابته! فاحتمال الصدفة احتمال غير علمي، ولا يستند إليه، ولا يلتفت إليه.

الفرضية الثالثة: فرضية القوانين.

كثير من الماديين الآن يصرّون على الفرضية الثالثة، يقولون: القوانين هي التي أوجدت الكون، القوانين الحاكمة للقوى الأربع – الجاذبية والنووية والكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة هي التي أوجدت هذا الكون.

هذه الفرضية أيضًا غير صحيحة، لأن هذه القوانين تحتاج إلى مكان تعمل فيه، فكيف تكون هي الموجِدة للمكان؟ القانون حتى يتفعل ويعمل يحتاج إلى زمن ومكان وطاقة ومادة، بدون هذه العناصر الأربعة لا يعمل القانون، فكيف يكون القانون هو الموجد لها وهو يحتاج إليها في عمله وفعاليته؟! هذا كما لو قلت: 1 + 1 = 2، هذا قانون، هل هذا القانون يوجِد شيئًا؟ القانون لا يوجِد شيئًا.

بعبارة أخرى: الكون هو الذي احتضن القانون، وليس القانون هو الذي أوجد الكون، القانون حتى يوجد فهو مرهون بسرعة الانفجار، بسرعة الضوء، بقيمة الثابت الكوني.

الفرضية الرابعة: فرضية خلق المفردة لنفسها.

الفرضية الأخيرة ما طرحه «أدكينز»،وهو من كبار الملحدين، قال: الزمكان شكّل ذاته، هو خلق نفسه، هذه النقطة المفردة التي منها تولّد الكون، هذه النقطة شكّلت نفسها، خلقت نفسها وانتهى الأمر.

لكن هذا مردود عليه بانه من المستحيل أن شيئًا يؤثر وهو بعد لم يوجد، النقطة كيف تخلق نفسها قبل أن توجد؟ يقول: لا يمكن للشيء أن يؤثر قبل وجوده، هذا شيء غير معقول؛ ومن العجيب أنهم يفترضون لكل شيء سببًا، لكن إذا جاؤوا إلى أول شيء وهو أول حادث – وهو انفجار الكون – يقولون لا سبب له! إذا كانوا يرون لكل شيء سببًا، ولولا السببية ما بني علم ولا ابتكرت نظرية، فكيف إذا جاؤوا إلى أهم شيء، وهو بداية الكون، يقولون: هذه النقطة التي منها انبثق الكون لا سبب لها وأوجدت نفسها بنفسها؟

في مقابل هذه التناقضات والفرضيات المستحيلة نجد الكثير من الأدلّةُ على بُطلان أزليّةِ وأبديّة مادة  الكون وصورته، منها العقليّةُ، ومنها الأدلةُ العلميّة الحديثة.

أمّا الأدلّة العقلية: فهيَ متنوّعَةٌ وكثيرةٌ، أبسَطُها إثباتُ حدوثِ العالم، مِنْ خلال ظاهرةِ التغيّر الملازمة لكلّ شيءٍ فيه؛ وذلكَ لأنّ التغيّرَ نوعٌ من الحدوثِ للصّورةِ والهيئةِ والصفات. فلو نظرَنا إلى الموجودات التي تقع تحت مجال إدراكنا الحسّي في هذا الكون العظيم-ومنها الإنسانُ- لوجدنا أنّها لم تكن موجودة ثمّ وُجدت، وأن أشكالاً كثيرةً – صغيرةً وكبيرةً – كانت معدومةً في أشكالِها وصورِها ثمّ وُجدَت – كما تبدو لنا صورةُ التغيّراتِ الكثيرةِ الدائمةِ في كلّ جزءٍ من أجزاء هذه الموادّ الكونيّة التي نشاهدُها، أو نحسُّ بها، أو ندرك قواها وخصائصَها، فمِن موتٍ إلى حياة، ومن حياةٍ إلى موت، ومن تغيّر في الأشكال والصوّر إلى تغيّرٍ في الصفات والقوى؛ فلو كان الأصلُ في هذهِ الموجوداتِ الماديّة التي ندركُها بحواسّنا هو الوجودُ الأزليّ، لم تكنْ عرضةً للتحوّل والتغيّر والزيادة والنقص، والبناء والفناء، ولم تحتج في وجودها وتغيّرها إلى أسباب ومؤثراتٍ، وبما أنّها عرضَةٌ للتغيير والتحويل، وبما أنّ قوانينَها تفرض احتياجَها إلى الأسباب والمؤثّرات، فلا يمكن عقلاً أن يكون الأصلُ فيها هو الوجود، وإنّما يجبُ عقلاً أن يكونَ الأصلُ فيها هو العدم، ولا بدّ لها من سبب أوجدَها من العدم، وهذا ما سنناقشه في المحور الأخير.

يتبقى لدينا سؤال: هل التغير ملازم للحدوث؟ الجواب: نعم، فإذا ثبت أنّ شيئاً معيناً متغير، فقطعاً هو حادث. وعليه فإذا أثبتنا أنّ المادة متغيرة فهي حادثة، وتحتاج إلى محدث، وليست بأزلية لتستغني عنه. وهذا ما نبحثه في أمور عدة:

أولاً: المادة Matter في الفيزياء: هي كلّ ما له كتلة وحجم, وللمادة خصائص مختلفة تشمل الحجم والكتلة والكثافة.

ثانياً: المادة يُمكن أن تكون في حالات مختلفة تحدد هيئاتها، وحالات المادة الطبيعية بشكل رئيسي على أربعة أطوار: الصلبة والسائلة والغازية والبلازما.

ثالثاً: إنّ التغير الحاصل في المادة له أشكال مختلفة:

(أ) إذا كان في نفس الجوهر تسمّى صيرورة؛ كصيرورة المعدوم موجوداً بفعل الموجِد.

(ب) وإن كان في المكان تسمّى نقلة أو انتقال؛ كحركة الاجسام من نقطة إلى اخرى في المكان.

(ت) وإن كان في الكم تسمّى نمواً أو ذبولاً أو زيادةً أو نقصاناً.

(ث) وإن كان في الكيف تسمّى استحالة او تحول؛ كاستحالة الماء البارد حاراً وبالعكس.

فالحادث لم يكن ثمَّ كان، فأصبح موجوداً بعد أن لم يكن، وأصبح كبيراً بعد إن كان صغيراً؛ وأصبح حاراً بعد أنْ كان بارداً؛ وهكذا.

رابعاً: تحول المادة إلى طاقة ينافي الأزلية: إنّ المادة يمكن أن تتحول إلى طاقة، والطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة طبقًا لقوانين معينة، وهذا يدل على أنّ الوجود ليس صفة ذاتيّة ملازمة للمادة، أو الطاقة؛ إذ لو كان الوجود صفة ذاتيّة ملازمة للمادة، لَمَا انفك عن المادة وفارَقها بأي حال من الأحوال، ولو كان الوجود صفة ذاتيّة ملازمة للطاقة، لَمَا انفك عن الطاقة وفارقها بأي حال من الأحوال، أي: إن الوجود صفة عارضة للمادة والطاقة، تعرِضُ للمادة، أو الطاقة في بعض الأحوال، وتنفك عن المادة أو الطاقة في بعض الأحوال، وهذا يستلزم أن يكون لوجود المادة بداية؛ أي: المادة مُحدَثة ليست أزلية، وكل محدَثٍ له محدِثٌ.

والنتيجة: إنّ المادة وهي كتلة ومتغيرة، وقد ثبت ذلك بالقوانين الفيزيائية الطبيعية لابد من أن تكون حادثة، لعروض حالات الحوادث المختلفة عليها لاستحالة قدم المتعير. ومعلوم ان الكون مركَّب ومتغير: ومادام الكون مُركَّب إذن، فلابد أن يكون له بداية، فمثلًا المياه المكوَّنة من الهيدروجين والأكسجين لا يمكن أن تكون أزلية، لأنها قبل أن توجد كان هناك عنصري الهيدروجين والأكسجين، كلٍ على حدة، وتحت درجة حرارة معينة اتحدا معًا وكوَّنا المياه. وأيضًا الكون في حالة تغيير دائم ومستمر، ومن المعروف أن  الشيء  المتغير لا يمكن أن يكون أزليًا، ولهذا لا يمكن أن ندَّعي أن الكون المتغير أزلي.

 هناك ايضا استدلال عقلي منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، انه خاطب الدهريين قائلا: أتقولون إن الليل والنهار متناهيان أم غير متناهيين؟ إن قلتم غير متناهٍ كان ما سبقك آخر ما لا أول له، وإن قلتم أنه متناهٍ إذن كان ولم يكونا. هذا التعبير فيه استدلال على أن الكون متناهٍ، يعني له بداية، يريد أن يقول بعبارة بسيطة: أنت الآن في ليل، يعني سبقك نهار، هذا النهار الذي سبقك كان متناهيًا أم غير متناهٍ؟ يعني النهار الذي سبقك له أول أم ليس له أول؟ متناهٍ يعني له أول، يعني سبقه ليل أيضًا، غير متناهٍ يعني لا أول له، النهار الذي سبق ليلنا متناهٍ أم غير متناهٍ؟

 إذا قلتم غير متناهٍ، لأن الدهريين يقولون: الكون غير متناهٍ في الماضي (أزلي)، يعني النهار الذي سبقك غير متناهٍ، إذن النهار الذي سبق ليلنا آخر ما لا أول له، يعني الكون لا أول له، لكن انتهى بنهار انقضى، لأن المفروض أن النهار انقضى وجاءنا الليل، فالنهار الذي قبلنا آخر ما لا أول له، وهذه قضية غير معقولة، كل شيء له آخر له أول، فإذا قلت النهار الذي قبلنا انقضى فصار هو الآخر إذن له أول، لا يعقل أن يكون للشيء آخر وليس له أول، بما أن النهار الذي سبقنا له آخر إذن له أول، إذن سلّمتم أن هناك بداية.

وإذا قلتم النهار الذي سبقنا متناهٍ، فالنهار الذي سبقنا قبله ليل، والليل متناهٍ، والليل قبله نهار، والنهار متناهٍ، وهكذا وهكذا إلى أن نصل إلى أول لحظة، إلى أول فصل زمني، يرجع السؤال: ذلك الفصل الزمني متناهٍ أم غير متناهٍ؟ هذه قاعدة عقلية لا مناص منها: «الوجودات التدريجية لا يحدث الثاني حتى ينقضي الأول». الليل الذي نحن فيه لم يوجد حتى انقضى النهار الذي قبله، والنهار الذي نحن فيه لم يوجد حتى انقضى الليل الذي قبله، وهكذا إلى أن نصل إلى نقطة إما أن يكون لها آخر أو لا، إذا قلتم: ليس لها آخر، يكذّبها الوجدان، صار آخر، انقلب النهار إلى الليل، إذا قلتم لها آخر فما له آخر حتمًا يكون له أول. إذن، الكون له بداية.

أمّا الأدلّةُ العلميّةُ الطبيعية على بطلانِ أزليّة الكون فهي كثيرة أيضا..

فمن الثابت علميا أنّ هناك انتقالاً من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، ولا يوجد عكس هذه الظاهرة، فالكون يتجه إلى درجةٍ تتساوى فيه جميع الأجسام من حيث الحرارة، وعند ذلك لن تتحقق عمليات كيميائية أو طبيعية، ويستنتج من ذلك: أنّ الحياة في عالم المادة أمر حادث ولها بداية، إذ لو كانت موجوداً أزلياً وبلا ابتداء لزم استهلاك طاقات المادة، وانتهاء ظاهرة الحياة المادية منذ زمن بعيد. وهذا ما  أشار اليه ” فرانك آلن ” أستاذ علم الفيزياء بقوله: ” قانون ” ترموديناميا ” أثبت أنّ العالم لا يزال يتجه إلى نقطة تتساوى فيها درجة حرارة جميع الأجسام، ولا توجد هناك طاقة مؤثرة لعملية الحياة، فلو لم يكن للعالم بداية، وكان موجوداً منذ الأزل لزم أن يقضى للحياة أجلها منذ أمد بعيد، فالشمس المشرقة والنجوم والأرض المليئة من الظواهر الحيوية وعملياتها أصدق شاهد على أن العالم حدث في زمان معين، فليس العالم إلا مخلوقا حادثا.

وقد أعلن علماء الطبيعة: إنّ قوانين (الديناميكا الحرارية) قد أخذت تدلهم على أنّ لهذا الكون بداية، ولا بـد لـه مـن مُبدئ من صـفاته العقـل، والإرادة واللانهايـة، ويجب أن تخالـف طبيعتـه طبيعة المادة الّتي تتكون من ذرات تتآلف بدورها من شحنات أو طاقات، لا يمكن بحال بحكم العلم أن تكون أبديّة أزلية. بالاضافة الى ظاهرة تراجع المجرات وظاهرة الاشعاع والعناصر المشعة وغيرها. أما الفلاسفة والعلماء الملحدون فكانوا يدّعون أن الكون لا يحتاج إلى خالق؛ اي انهم يضيفون إلى المادة إحدى صفات الخالق وهي صفة الأزلية؛ لذا كان من ضمن قوانينهم الفيزيائية (لا يمكن خلق المادة من العدم، كما لا يمكن إفناء المادة). وهذا ينقلنا الى الحديث عن المحور الثالث والاخير.

ثالثا: الحاجة إلى الخالق:

بعد أن تقرّر عندنا أنَّ للكون بداية، نقول: بما أن الكون له بداية، فمن الذي نقله من العدم إلى الوجود؟ لا بد له من قوة موجدة أوجدته، بمقتضى قانون السببية، لكل مسبب سبب، بمقتضى قانون السببية لهذه البداية موجد، وذلك الموجد يتمتّع بأربع صفات:

الصفة الأولى: أن هذا الموجد لا سبب له، قد يقول لك قائل: إذا خلق الله الكون فمن الذي خلق الله؟! هذا السؤال غلط، لأن قانون السببية خلقه الله، فكيف يخضع لقانون السببية وهو مخلوق له؟ من الذي أوجد قانون السببية؟ نحن عندما نقول: لكل مسبب سبب، هذا قانون، هذا القانون من الذي أوجده؟ أوجده الله، فكيف يخضع الله لقانون السببية مع أنه هو الذي أوجده؟! هذا غير معقول. إذن، عندما نقول: مقتضى قانون السببية أن لكل مسبب سببًا، ننتهي إلى سبب ليس له سبب، لأن السبب الأول هو الذي أوجد قانون السببية، فلا يمكن أن يخضع له.

إذن، الصفة الأولى هي أن الموجد واجب الوجود لا سبب له؛ لأنه هو الذي صنع قانون السببية.

الصفة الثانية: أن هذا الموجد خارج الزمان والمكان والطاقة والمادة، لأن هذه الأشياء الأربعة حدثت بالانفجار، قبل الانفجار لا يوجد زمان ولا مكان ولا طاقة ولا مادة، بما أن هذه الأربعة حدثت بالانفجار، إذن فمن أوجد الانفجار أوجدها، ومن أوجدها فهو منزه عنها متحرر منها، فلا يحده زمن ولا مكان ولا طاقة ولا مادة.

الصفة الثالثة: أنه مريد وقادر. لماذا حدث الانفجار قبل 13 بليون سنة ولم يحدث قبل؟ هذا معناه أن الموجد مريد، أراده في هذا الظرف ولم يرده في ظرف آخر، حدوث الانفجار في هذا الظرف معناه أن الموجد ذو إرادة، مختار، قادر أن يفعل وألا يفعل، ولذلك اختار أن يحدث الانفجار في هذا الظرف دون غيره من الظروف.

الصفة الرابعة: أن هذا الموجد كامل، لأنه أوجد حياة، وفاقد الشيء لا يعطيه، أوجد كونًا مليئًا بالعلم والحكمة والإبداع والحياة، وفاقد الشيء لا يعطيه، لولا أنه كامل حي عليم قادر لما أعطى علمًا وحياة وقدرة وحكمة، فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

يمكننا اذن صياغة الحجة الكلامية و المنطقية الكونية  كالتالي :

لكل سبب مسبب ، ولكل حدث محدث له ، ولكل شئ يظهر للوجود له سبب لوجوده .

العلم يفصل بيننا ، والعلم يخبرنا عن طريق البحث و الاستقصاء والدراسة والتجربة ، ان للكون بداية ، ولم يكن موجودا من قبل و عمره منذ ولادته يقدر علميا ب 14.7 مليار سنة اي الكون سبب ولابد من مسبب لوجوده .

بالنتيجة: نحن – المؤمنون – نسمّي هذا برهان الحدوث، ونقول: مقتضى أن للكون بداية أن هناك موجِدًا، والموجد كامل حي، ليس له سبب، منزه عن الزمان والمكان والطاقة والمادة، قادر مريد، هذه أطروحتنا.

 إذن الأطروحة الدينية تقول أن وراء إيجاد الكون خالقًا قديرًا تبارك وتعالى، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، هذا نسميه دليلًا إنيًا، نستدل بالأثر على المؤثر.

ولو كانت المادة أزلية، فمن ذا الذين وضع لها القوانين الطبيعية التي تحكم الكون كله لكي يكون في انسجام يفوق الإدراك؟ وكيف اتحدت هذه العناصر المختلفة لتكوّن جميع المواد الّتي توجد على سطح الأرض؟ ومن الذي يضبط الكون بهذه الدقة المتناهية؟

نعم قد يحتجّ البعض بالقول إنه لا يمكن أن يُستدل بـنظريّة الانفجار العظيم للقول بأنّ الكون مخلوق، فهي لا تعدو كونها “نظرية”؛ أي أمرٌ لم يثبت، وإنما مجرد افتراض. ولو ثبت بطلان هذه النظرية فسيفقد المؤمنون بالله دليلهم العلمي الوحيد على وجود الله، ليرجع الأمر إلى ما كان عليه سابقًا من دلالة العلم الطبيعي على أزلية المادة، خاصة مع وجود بدائل نظرية كوسمولوجية تقرّر أزلية الكون.

ليس الاعتراض السابق على شيء؛ إذ هو قائم على العناوين المثيرة التي ينكشف عند النظر في حقيقة ما وراءها أنّها لا تؤول إلى إثبات ما يريده أصحابها من ردّ خلق الكون، وذاك هو سبيل الإلحاد اليوم، إذ يعتمد على كسل عموم القرّاء، وغياب الهمّة للبحث وراء الادّعاءات العريضة للقول بانتقاض أدلّة المؤمنين.

وبإمكاننا أن نقول في ضوء مطابقة نظرية الانفجار العظيم للشواهد المادية والرياضية للكون: إنّ سيناريو الانفجار الأوّلي العظيم موثَّق بالقرائن العلميّة المدعومة بالنبوءات الصادقة للعلماء، وهو بذلك تفسير علمي مدلّل عليه لنشأة الكون.

ايضا ليست نظرية الانفجار العظيم هي الدليل العلمي الوحيد لخلق الكون، وإنّما هناك دلائل أخرى، أو بالأحرى بإمكاننا أن نقول إنّ كلّ الدلائل المادية والرياضية تدلّ على أنّ الكون له بداية.

اذن نستطيع القول بان جميع البدائل المطروحة اليوم والتي يحاول الملحدون اعتمادها كبديل لنظرية الانفجار العظيم لإثبات أزلية الكون قد فشلت، علمًا أنه للخروج من إشكالية الخلق من عدم، ذهب الكوسمولوجيون الماديون إلى كلّ الاحتمالات المتصوّرة عقلًا:

  • الكون نشأ من عدم، لكن هذا العدم وجود مادي، وهذا تناقض.
  • كوننا هو الوجود المادي الوحيد، لكنّ هذا الوجود يجدّد نفسه كل مرة. وهي دعوى باطلة من أوجه، ومن أهمها تعارض ذلك مع القوانين الفيزيائية بما لا يسمح بردّ الكون نفسه إلى الوجود مرة أخرى أو مرات لامتناهية، لان للاتناهي في حد ذاته هو قيمة عقلية فقط لا مجال لتحققها في الواقع.
  • كوننا جزء من كون أم، وهو تصوّر لا دليل مادي عليه؛ لقصور آلة معرفتنا عن تخطي حدود كوننا، وبالتالي فكلّ ما يقال هنا هو محض خيال، كما أنّ هذا النموذج عاجز عن أن يفر من التناهي الزمني لدخوله تحت (مبرهنة بورد وغوث وفلنكن) القاطعة أنّ كل كون متمدد فهو غير أزلي.

ومع ظهور أن المادة حادثة وغير أزلية، وأن للكون بداية، يدل على الخلق، وأن للكون خالق، إلا أن طبيعة هذا الانفجار الكبير أضاف أدلة أخرى على أن الكون خُلق بتقدير دقيق ونظام رائع. ذلك لأن أي انفجار لا يكون إلا مخربًا وهادمًا ومشتتًا ومبعثرًا للمواد، ولكن عندما نرى أن انفجارًا بهذا العنف وبهذا الهول يؤدي إلى تشكيل وتأسيس كون منظم غاية النظام، فإن هناك إذن وراءه يد قدرة وعلم وإرادة وتقدير لانهائي فوق الطبيعة.

وأخيرا لا بد من الاشارة الى أن الإمام أبا حامد الغزالي كان أول من حلّ مشكلة قدم العالم، وأجاب على جميع المشاكل المثارة حول مدة الترك، أي الفرق الزماني بين الأزل وبين بدء خلق الكون، فقال بأن الكون حادث وأنه لم يكن قبله زمان؛ أي أن الزمان والمكان بدأ بعد خلق الكون؛ لأن الزمن مرتبط بالحركة، ولو تصورنا أن كل شيء في الكون قد سكن وتوقف، إذن لتوقف الزمن، أي لم يَعُد هناك زمان. وهكذا فمن الخطأ توهم وجود زمان قبل خلق الكون. وعندما أشارت النظرية النسبية إلى أن الزمن بُعْد رابع كان من البديهي عدم وجود الزمان في عالم لم تخلق بعد أبعاده الأخرى.

والمدهش أن علامات بدء الخلق التي تعلنها رسالة الكون إلى أهل النظر قد أمر القرآن الكريم بالبحث عنها في قوله تعالى: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” سورة العنكبوت: 20.

قم بتقييم المحتوي