كيف نتأكد من أننا لا نحيا في حلم كبير؟
د. عزة رمضان العابدة
سيطرت حالة من القلق والنقاش والجدل على بعض سكان الكرة الأرضية بعد أن أعلن مارك زوكربيرج مؤسس موقع التواصل الاجتماعي Facebook عن مشروع العالم الافتراضي Metaverse. والحقيقة أن هذا الإعلان قد سبقه عدة تمهيدات من جهات متعددة. فالمتابع للسينما الأمريكية في الفترة الأخيرة سيجد أنها قد وجّهت جزءًا من اهتمامها إلى هذا النوع من الأفلام الذي يناقش فكرة العوالم الافتراضية ومحاولة تقريبها من الواقع، أو الهروب من الواقع إليها، مثل فيلم الرجل الحر “Free Guy”، الذي قمت بمناقشته مع مجموعة من الشباب في سينما سؤال هذا الأسبوع؛ حيث إن هذا الفيلم يحوي الكثير من الأفكار والقضايا والافتراضات كما أنه يطرح العديد من التساؤلات. تدور أحداثه حول موظّف بأحد البنوك يُدعى جاي يعيش حياة هادئة وبسيطة لا يتأثر كثيرًا بما يحدث من حوله، إلى أن يكتشف أنه في الواقع لاعب في خلفية لعبة فيديو في عالم مفتوح ، فتزداد مخاوفه، ويقرّر أن يدخل في سباق مع الزمن لإنقاذ لعبة الفيديو قبل قيام مطوريها بإغلاقها.
نجح الفيلم في الانتقال بين عالم الحقيقة وعالم الألعاب بكل سلاسة، ورغم أنه ليس أول فيلم يطرح مثل هذه الأفكار، فهناك أفلام أخرى مثل wreck it ralph، وReady player one، إلا أنه يختلف بوجود شخصية عصرية كتلك الموجودة في العالم الافتراضي، هي شخصية داخل لعبة Free City التي تلتقي مع لعبة GTA، وFortnite اللتين انتشرتا بشكل كبير بين المراهقين. كما أنه يناقش فكرة اكتشاف الذات والهدف من الحياة، في رحلة البحث عن مشاعر الحب الحقيقية، مع طرح جديد لمنظومة الذكاء الاصطناعي وإمكانية تطويره ليتوافق مع الحياة البشرية، مما أثار العديد من التساؤلات، يأتي على رأسها هذا السؤال الذي طرحه أحد الشباب:
كيف نتأكد من أننا لا نحيا في حلم كبير؟
فالإنسان عندما يفكر في نفسه وهو في حالة المنام كيف يتعامل مع الأشياء وكأنها حقائق موضوعية خارجية (أي لها وجود وتحقق خارج الذهن، وبالتالي خارج الحلم؛ أي في العالم الواقعي). نعم، ربما تسأل نفسك وأنت في المنام عن حقيقة الأمر؛ إن كان هذا حلمًا ام واقعًا، وقد تجيب عن ذلك بأنه واقع وحقيقة، بدليل كذا وكذا. لكن سرعان ما يتبدد هذا الظن، عندما تتفاجأ بحقيقة أخرى منافية؛ وتشعر بأن الأمر لم يكن سوى حلما رأيته في المنام.
فكرة قديمة متجددة:
هذه الفكرة ليست وليدة العصر الحديث ولا التقدم الكنولوجي، بل إنها قديمة كما يخبرنا بذلك البان.ج. ويدجيري في المذاهب الكبرى في التاريخ فيقول: “حلم تشوانغ تسو (369-ـ286 ق.م) ذات يوم بأنه كان فراشة تحوم طائرة هنا وهناك، كما لو كانت حقاً فراشة واعية في اتبّاعها لميولها. هذه الفراشة كانت تجهل أنها كانت تشوانغ تسو. وفجأة استيقظت، ومنذ ذلك أصبح بديهياً بأنها كانت تشوانغ تسو. ولكنه لا يُعرف حتى الآن إذا كان تشوانغ تسو هو الذي حلم بأنه صار فراشة أو أن الفراشة قد حلمت بأنها أصبحت تشوانغ تسو”. وأيضا في عصرنا الحديث يرى باسكال أنه ليس بوسع الإنسان أن يعرف إن كان في حلم أو يقظة، طالما أن ما يحدث في الحلم من إحساس هو مثل الذي يحدث في اليقظة، ويوافقه الرأي أيضا فيلسوف المثالية جورج باركلي كما جاء في كتاب نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للانسان.
سؤال فلسفي بصبغة علمية:
حتى علماء الطبيعة كان لديهم نفس التساؤل وذات الاهتمام فيقول هلمولتز: لست أدري كيف يتم تفنيد المذهب المثالي الذي يذهب إلى القول بأن الحياة لا تنطوي إلا على أحلام. كما ظهر على هذه الشاكلة من يرى بأننا لا نعرف على وجه الحقيقة ان كنا حقيقيين ام نسخاً ممثلة داخل حاسوب عملاق، كما عبّر عن ذلك الفيزيائي الرياضي فرانك تيبلر. بل لقد استنتج الفيلسوف نيك بوستروم باننا ممثلون لحاسوب ضخم، وبالتالي فنحن نعيش وهمًا عندما نتصور الأشياء من حولنا حقيقية، كما ورد في كتابي التدبير الالهي، والجائزة الكونية الكبرى لبول ديفيز.
في مقابل هذه الأفكار والتساؤلات نجد بعض العلماء والفلاسفة قد قطع شوطا كبيرًا في محاولات للإجابة والتمييز بين هذين العالمين عن طريق رصد اختلاف الأحوال فيهما، ووضع بعض الحدود الفاصلة بينهما، كالمدة الزمانية في كليهما حيث إن مدة الأحلام تكون قصيرة نسبيا، على الأقل عند مقارنتها بالحياة فى الواقع، فإن الحلم يستغرق فترة قصيرة جدًا قبل الاستيقاظ منه، مقارنة بالواقع الذى يستمر لفترة زمنية طويلة. أيضا بالنظر إلى استمرارية كل منهما، نجد أننا عندما نحلم حلمًا ما، ثم نستيقظ منه، فانه من الصعب جدًا أن يكتمل نفس الحلم بنفس تفاصيله لو عاودنا النوم مرة أخرى، بخلاف الواقع الذي دائما نجده بنفس الأحداث التي تركناها قبل نومنا.
الحياة عند مفترق طريقين:
أمام هذا السؤال: كيف نتأكد من أننا لا نحيا في حلم كبير؟ لا يجد الانسان سوى خيارين: إما أن يصدق أنه يحيا في حلم كبير، وأن جميع الأشخاص والأشياء والأحداث ليست حقيقية، وساعتها سيكون قد ابتعد كثيرًا عن البدهيات أو المبادئ العقلية، وفي مقدمتها قانون الذاتية او الهوية وهو القانون الذي يحكم بموجبه العقل: أن الشيء هو ذاته، ولا يمكن أن يكون شيئاً غير ذاته. أي لكل شيء حقيقة، ولكل شئ خاصية ذاتية يحتفظ بها دون تغير. وهذا القانون أو المبدأ لا يحتاج إلى استدلال لأنه بديهي وضروري يقرّه العقل ويحصل في النفس ابتداء بمجرد التمييز، ولا يتلقى من خارجها، ومن ثم فانه لا يتحصل بالمرور بعملية التعلم أو التعليم. بل إن محاولة التدليل عليه عملية شاقة وصعبة وكما قيل بعض العلوم ضرورية فطرية، فإذا طلب الاستدلال عليها خُفيت ووقع فيها الشك، مثلما حدث مع الفيلسوف ديكارت الذي اعترف بعجزه عن إيجاد سبيل للإستدلال على الواقع الموضوعي، فاضطر إلى الاستعانة بالثقة بالله المدبر، واعتبر يقينه الذاتي بالله كافياً للإطمئنان بواقعية العالم الخارجي.
إن السؤال السابق يستتبع طرحه العديد من الأسئلة التي لا يملك أحدٌ الإجابة عنها مثل: من نحن الذين نحلم؟ من أين جئنا؟ ومتى بدأ هذا الحلم؟ وما دورنا فيه؟ ومن ذا الذي يحدد مدة الحلم وأطواره وأحداثه؟ هل بإمكاننا أن نحدِث تغييرًا فيه؟ ومن الذي يتحكم فيه وفينا؟ واذا كنا داخل الحلم فمن يحلم بنا إذن؟ واذا كان من يحلم لا يدرك أنه في حلم إلا إذا أفاق منه، فكيف لنا أن ندرك هذا ونحن في أثناء الحلم؟ والأهم كيف السبيل إلى الاستيقاظ من هذا الحلم الكبير؟
سلسلة من الأسئلة المعقدة نجد جميع إجاباتها سهلة وواضحة إذا تبنينا الخيار الآخر الذي ينطلق من مبادئ وأسس عقلية، يبني عليها بالتعاضد مع مصادر أخرى للمعرفة، حتى نصل إلى تصورٍ واضح عن حقيقة الحياة كما خلقها الله وأرادها لنا، تلك الحقيقة التي لا يتصادم شئ منها مع قوانين العقل وأحكامه.
كلمة السر لمعرفة الفرق:
هناك خمس كلمات قد تساعدنا في الاجابة عن السؤال الرئيس حول ماهية الحياة، هذه الكلمات هي: القصد والإرادة والاختيار والشعور والوعي. فمن المعاني الفطرية الموجودة في الانسان سؤاله الدائم والعميق عن ماهيته وماضيه وحاضره ومصيره: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ وماذا أفعل هنا؟ والى اين المصير؟ هذه الأسئلة تميّز الإنسان عن باقي المخلوقات، ومن خلالها تثبت له الإرادة ويتحقق القصد والاختيار اللذان هما من لوازم النفس البشرية حال حياتها، حيث إن بين الميِّت والنَّائم قدرٌ مشترَكٌ، وهو كونهُمَا لا يمَيِّزَان ولا يتصَرَّفان. كما يتحقق له الوعي والشعور وإمكان تحصيل المعرفة وتحصيل المنافع. وإلا فما الذي يجعل الإنسان شغوفًا في طلب المعارف والعلوم، دائم التطلع والسعي الى حياة أفضل؟!
إشارات قرآنية للحقيقة الدنيوية:
الحياة طبقا للتصور الإسلامي تشمل الحياتين؛ الدنيا والآخرة، وقد جعل الله الدنيا دار التكليف والعمل، والآخرة للحساب والجزاء؛ قال تعالى: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” الحديد:20. وفي الآية التي بعدها أمرنا بالمسارعة في عمل الخيرات الآن حيث قال: “سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” الحديد:21.
كذلك ذكر لنا أنموذجا للموت والنُّشور في الآية الكريمة: “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الزمر:42. فعن لُقمانَ عليه السَّلامُ أنه قال: يا بُنيَّ كما تنامُ فتوقظُ كذلك تموتُ وتنشرُ، فالقبض والإرسال والإمساك والإطلاق فيه العبر والآيات والدلائل الواضحة لمن تفكر وتدبر بهدف الوصول إلى الحقيقة التي يدرك من خلالها أنه سبحانه الإله القادر، وانه أقام في هذه الآية دليلاً محسوساً على قدرته يحسه العباد بحواسهم، ويدركونه بعقولهم. أما تلك التوهمات والخيالات التي تحتوى عليها هذه الأفلام (كما يظهر من اسمها: أفلام الخيال العلمي) فإنها مليئة بالتصورات المغلوطة التي لو سيطرت علينا لما فعلنا شيئا، ولا أحرزنا تقدمًا في أي مجال في حياتنا.
وختاما أود أن ألفت النظر إلى أن هذه النوعية من الأفلام والمشروعات تأخذنا لمساحة فكرية هي بمثابة مرحلة وسيطة بين الطرح القديم الذي تبناه بعض الفلاسفة والمفكرين من عدم التمييز بين الحلم والحقيقة، إلى مرحلة جديدة لا يستطيع بعض الشباب التمييز فيها بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي، لذا علينا أن ننتبه لمن يحاولون تعميق وترسيخ مثل هذه الأفكار ونقلها إلى عالم الواقع ثم فرضها علينا كحقيقة واقعية، وأن نكون على استعداد للتعامل الجيد معها بما يحفظ على الإنسان إنسانيته التي خلقها الله عليها، ويما يحقق به دوره الذي خلقه الله من أجله.