محمد مصطفى عبد الظاهر
مسؤول سفارة المعرفة بجامعة الإسكندرية.
شاهدنا منذ أيام فيلمًا وثائقيًا في مطلع العام ٢٠١٩م بعنوان «في سبع سنين» وأرفقت القناة به الوصف التالي في صفحتها على موقع يوتيوب (يرصد الفيلم جانباً من التحولات الفكرية والاجتماعية التي عصفت بالشباب في مصر بالأعوام السبعة التي تلت ثورة يناير وأبرزها الإلحاد وخلع الحجاب والتحول للعمل المسلح. ويستعرض الفيلم قصصاً لعدد من الشباب والشابات يكشف من خلالها عن بعض الأسباب والدوافع التي خلفت جزءاً من هذه التحولات الحادة).
وقد أثار الفيلم جدلا واسعا على مواقع الرأي والتواصل الاجتماعي، فما بين مهاجم له ولصنّاعه أو اتهامهم بالتآمر لأنه عرض تساؤلات الشباب المتطرف بغير إجابة، وأثار التعاطف معهم، وبين مُبرِّئ لهم بأنه فقط يعرض واقعا يميل الكثيرون لتجاهله. أو بكونهم يُوظّفون انحيازاتهم السياسية في قضايا الرأي، وغيرها، لكن ليس ما يهمنا في هذا المقال الحكم على نية صناع الفيلم ولا تقييمه فنيا، وإنما تحليل دوافع الإلحاد التي سلط الضوء عليها وبيان سبل مواجهتها.
يقول عالم السياسة الفرنسي ألكسيس دي توكفيل: “بعد انتهاء الثورة سيظل ما خلفته من عادات ثورية قائمة في الشعب زمنا طويلا، وسوف تعقبها اضطرابات اجتماعية عميقة”.[1]
والإلحاد هو أحد مظاهر هذه الاضطرابات الاجتماعية التي تكشف عن الخواء النفسي والمعرفي للكثيرين، فهو نوع من التمرّد ضد السلطة بشكل عام، ليست فقط السلطة السياسية متمثلة في النظام الحاكم وإنما كذلك السلطة الاجتماعية والأبوية والدينية متمثلة في الجيل الأقدم من الأهل وأعلام الثقافة والجماعات الدينية، خاصّة إذا لم يُلبِّ رموز الجيل الأكبر وقادته آمال هؤلاء الشباب وتطلعاتهم وفق رؤيتهم للحياة.
ومع ما ظنه هؤلاء الشباب خذلانا وخيبة أمل من الجيل السابق ساد بينهم فراغ فكري وأيديولوجي، ولم يكن هذا الخذلان هو الدافع الأكثر تأثيراً في إلحاد الشباب ذوي الخلفية الحركية الدينية، بل كان ما يعرف بمشكلة الشر، وهي أن يرى المتلبس بها تناقضا بين اعتبار الإله مطلق العلم والقدرة والمحبة وبين وجود الشر في العالم بكافة أنواعه، ومن تمثيلاتها لدى المتلبسين بها أن يتوقعوا جريان الأقدار كما يريدون، كأن يشاهدوا تحقق العدالة العاجلة، وألا يحيق بهم أذى يصل لدرجة معينة في تصورهم، بخاصة إذا كان الخطاب السائد من جماعاتهم هو أن النصر والتمكين على مرمى حجر منهم، وبأنهم مُؤيدون من قبل الله وتحوطهم الملائكة بالحماية، ثم يصدمون بواقع يخالف ذلك.
إن هذه النظرة الفردوسية للدنيا، التي تطلب انعدام البلاء وإثابة الصالح وعقاب الطالح فوريا هي نظرة تتعارض مع تفسير الدين للحياة الدنيا وغايتها، كما تتعارض مع مبدأ الاختيار الحر للإنسان في تحديد أفعاله بناء على إيمانه بالغيب، والواقع أن مشكلة الشر هي الدافع الأول للإلحاد في العالم أجمع وليس في مصر فقط، فكما يقول الفيلسوف الأمريكي الملحد مايكل تولي: “الحجة المركزية للإلحاد هي حجة الشر”[2].
والحاصل أن الوقوع في مشكلة الشر له جذور نفسية وتربوية عميقة، ولكن يتحتم مع معالجة جذرها النفسي أن يتم معالجة فرعها المعرفي بإزالة المغالطات والجهل عن صفات الخالق –جل وعلا -وأفعاله التي تتضمن مفهوم العدل الإلهي، وماهية الدنيا كدار اختبار وليست دار جزاء، وكل ما وراء ذلك من أسئلة تتعلق بالوجود الإنساني من وجهة نظر الإسلام.
لقد أظهر الفيلم من خلال النماذج التي قدمها أن للعوامل النفسية دورا واضحا في اختيار الإلحاد بتنوعاته، ولكنه أظهر كذلك من خلال أسئلة بعض الشباب التي لم يجدوا لها إجابة عندما سألوها؛ أنه يوجد –بالترافق مع العوامل النفسية- جهل بالأجوبة التي يقدمها الدين على أسئلتهم، فيتضح أن الحاضنات الإسلامية التي نشأ فيها هؤلاء الشباب لم توفِ هذا الجانب حقه، وفي ذلك السياق يقول الكاتب والصحفي البريطاني براين ويتاكر في كتابه (عرب بدون الإله) متحدثا عن أسباب تنامي التوجه الإلحادي في العالم العربي: “كثير من أولئك الذين تركوا الإسلام، فعلوا ذلك لرفضهم حجج وأدلة الإيمان التي تعلموها في المدارس وبواسطة رجال الدين”.
ويؤيد هذه الفكرة د. عمرو شريف أستاذ الجراحة والباحث في قضايا الإيمان والإلحاد في كتابه (الإلحاد مشكلة نفسية) حيث يقول فيه: «عندما راجعت حواراتي مع الشباب الملحد في بلادنا العربية، انتبهت إلى أن معظمهم لم يكن قد قرأ شيئا عما يثيره من مبررات عقلية لإلحاده، كما تنبهت إلى أن من طرحوا شبهات حول القرآن الكريم ورسولنا الكريم لم يكونوا قد طالعوا شيئا مما كتب لرد تلك الشبهات، وأدركت بوضوح أن شبابنا اتخذ قرارا بالرفض لأخطر قضية في حياة الإنسان (الوجود الإلهي) دون أن يبذل جهدا». غير أني أضيف أنهم قد يكونوا بذلوا جهدا بسؤال من هم ليسوا أهلا للإجابة، فزجروا الشباب عن السؤال، مما جعلهم يظنون أن الإسلام عاجز عن إجابة تساؤلاتهم.
إذن فلا غنى عن تعزيز اليقين من الطريقين كليهما، الحجاج المعرفي وتزكية النفس، وهنا يأتي ذكر الجانب الإيجابي للفيلم، فمعلوم أن المادة المصوّرة القصيرة هي الأكثر انتشارا في عالمنا العربي لسهولة تناولها، فقد تمكن الفيلم في أقل من ساعة بشكله -الدراما التوثيقية -أن ينبه إلى فداحة المشكلتين، واللتان توجدان بالفعل جهود لمواجهتهما، لكننا نرجو أن يكون دافعا للمزيد من المؤسسات المعنية لتكريس جهودها لأجل معالجتهما، وأعني بالمشكلتين:
– النفسية: بالتركيز على تزكية النفس ومخاطبتها شعوريا وردها إلى فطرتها السليمة.
– المعرفية: بالتركيز على تقديم الأجوبة الوافية للتساؤلات العقدية بطريقة ميسرة وجاذبة.
ومن أمثلة هذه المؤسسات المعنية مؤسسة طابة[3] للأبحاث والاستشارات، بمبادراتها[4] التي تشتمل على مبادرة سؤال، المنشور عليها هذا المقال والتي شعارها (من حقي أسأل)، بالإضافة لمبادرات أخرى للتزكية، وللدراسات المستقبلية، ومن بينها (مبادرة سند) التي تعالج جانبا آخر تم عرضه في الفيلم وهو التطرف والممارسات المغلوطة باسم الإسلام.
فقد أظهر الفيلم حالة الإحباط نتيجة لارتفاع سقف توقعاتهم جدا في السنين الماضية، وعدم تحقق كثير من آمالهم، وكان نتيجة هذا الإحباط التوجه للعنف، ويفسر جون دولرد في نظرية (الإحباط – العدوان) التي قدمها عام ١٩٣٩م أن الإحباط يؤدي دائما لشكل من أشكال العنف، إما الموّجه للداخل متمثلا في اللامبالاة، أو الموجه للخارج متمثلا في معاداة الإله كما في نصف الفيلم الأول، أو معاداة المجتمع كما في نصف الفيلم الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] Alexis de Tocqueville – Democracy in America
[2] Chad Meister & James K. Dew – God and Evil: The Case for God in a World Filled with Pain
[3] https://www.tabahfoundation.org/
[4] https://tabahinitiatives.org/about/