فلسفة العذاب الأخروي

.

فلسفة العذاب الأخروي

مصطفى أحمد ثابت

باحث رئيس

يستشكل بعض النار أن معيار النجاة من الخلود في العذاب الأخروي هو الإيمان بالله وتصديق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون: هناك ملحدون في هذا العالم يقومون بكثير من أعمال الخير والبر، مثل الصدقات ومساعدة المحتاجين وإنفاق الأموال الهائلة في سبيل الأبحاث المتعلقة بالأدوية الجديدة، بالإضافة إلى دورهم الكبير في تقدم العلم والبشرية، فلماذا يستحق الجنة مؤمن سرق أو أذى غيره، ولم يدخلها هذا الملحد الطيب الخيّر؟

السؤال عن معايير النجاة في الآخرة والفوز بالجنة والنجاة من النار، هو سؤال متعلق بالإيمان باليوم الآخر، واليوم الآخر من السمعيات التي نتلقى عقائدنا المتعلقة بها من الوحي، فإن البعث والحساب في حد ذاته أمر ممكن عقلا، لكن لما نطقت جميع الرسالات والكتب السماوية بأن الله رتب على جميع النبوات والرسالات يوم البعث والجزاء آمنا به وصدقناه من طريق الشرع، فهو حق لا ريب فيه لأن الله لا يخلف الميعاد وكلامه صدق.

والحق سبحانه أخبرنا على لسان أنبيائه ورسله أن معيار دخول الجنة والنجاة في الآخرة من العذاب هو الاستجابة لرسله والإيمان بما جاءوا به، وكل الرسل دعوا الناس إلى الإيمان والعمل الصالح، وهو معيار النجاة، كما أن مفهوم العمل الصالح يحدده أيضا الشرع، فإن الله مثلا أحل البيع وحرم الربا، والله أحل الزواج وحرم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج ولو كانت مبنية على التراضي والحب، والله أباح ذبح بعض الحيوانات وأكل لحومها، وحرم بعضا آخر، فالحلال والحرام والحسن والقبيح الذي يترتب عليه ثواب الله في الآخرة، مرده إلى الخطاب الشرعي والوحي الذي جاءت به الأنبياء.

ويتضح من هذا السؤال أن عندنا ميلا شديدا أن نجعل الإنسان ونفعه هو مركز هذا الكون، حتى لو كان منقطعا عن ربه وخالقه، لأنه يبدو من السؤال أننا  نستحسن كل ما يفيد الإنسان ويسعده ويسبب له الراحة والأمان والسعادة، وهذا لا شك شيء حسن، لكننا جعلنا الإيمان بالله وتوحيده وعبادته عملا أقل ثوابا ونفعا للناس في الآخرة مما يعود على الإنسان بالنفع المادي الدنيوي، وهذا هو الذي سميته منذ قليل بتأليه الإنسان لنفسه وجعله هو مركز الكون، لكن الحقيقة أن الحق سبحانه وأوامره هي المركز الذي يدور حوله المؤمن، وما أصبح الإنسان كريما بين الخلق إلا لأن الله كرمه ونفخ فيه من روحه، وحرم دمه وماله، وجعل دمه وروحه أغلى عنده من الكعبة وسائر الجمادات والحيوانات.

فلذلك أعود إلى السؤال وأقول: إن الإنسان الذي كفر بالله قد أعرض عن الغاية التي خلقه الله لأجلها، وتكبر على خالقه، وصار يدور في فلك نفسه وعبادتها بديلا عن عبادة ربه وخالقه، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] ويقول أيضا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23].

هذه فلسفة النجاة والفوز بالجنة في الإسلام، أن العمل الصالح شرط ثوابه أن يسبقه إيمان بالله ورسله، وإلا فلا قيمة له، لأنه نقل لمركزية الحق سبحانه في تصور المسلم إلى مركزية الإنسان وتأليهه، فهو نوع من الشرك والجحود، أن يعرض الإنسان عن عبادة ربه إلى عبادة ربه، وأن ينسى الإنسان الآخرة ويجعل الدنيا فقط وملذته وراحته فيها قبلته ومقصده وغايته، وهو نقيض من خلق الله الإنسان لأجله.

فإذا جمع الإنسان بين الإيمان والعمل الصالح ومساعدة الخلق لأنهم في نظره عيال الله وخلقه ونفخته الأولى التي كرمها فقد جمع بين الحسنيين، وإن قصر في العمل وظلم وتجبر وأذى الناس فإن الله لا يعفو عن ذنوب العباد في حق العباد، ولكن يعفو عن الذنوب التي ترتكب في حقه هو، لأنه العفو الغفور، ولا يتساوى المؤمن الصالح، بالظالم الفاجر، قال سبحانه: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار؟

وغني عن القول: أن شرط دخول النار لغير المسلم أن تكون دعوة الإسلام قد وصلته بصورة صحيحة لافتة باعثة على النظر، وإن لم تصله دعوة الإسلام بهذه الصورة فهو ملحق بأهل الفترة الذي لم يرسل الله إليهم الرسل، وهم من أهل النجاة.

قم بتقييم المحتوي