حين احتاجت الفلسفة إلى مسلمين ويهود ومسيحيين على حدٍّ سواء

بيتر أدامسون

كتبه: بيتر أدامسون
ترجمة: 
محمّد سامر الست

لو طُلِب إليك أن تذكر اسم أهم فيلسوف في بغداد في القرن العاشر الميلادي، فإنّك على ما يبدو لن تتردّد في أن تقول “الفارابي”. فهو واحد من المفكّرين القلائل في العالم الإسلامي الذين يعرفهم غير المتخصصين، وهو حقيقٌ بذلك نظرًا لعمله الطموح في الشرح والتعليق على مؤلفات أفلاطون وأرسطو في الإلهيات والفلسفة السياسية. ولكنْ لو كنتَ مقيمًا في بغداد في القرن العاشر لكنتَ على الأرجح ستفكّر بيحيى بن عدي، الذي اسمه لا يكاد يُعرَف الآن، مع أنّ المؤرّخ المسعودي ذكره بوصفه معلّمَ فلسفة أرسطو الأوحد في زمانه. بيد أنّ ابن عدي لا يعدُّ مثالًا جيّدًا لحال الشهرة التي تذوي عبر القرون فحسب، بل هو أيضًا توضيح جيد لطبيعة الفلسفة في العالم الإسلامي التي اتّسمت بالتلاقي الفكري بين الأديان.

فابن عديّ كان نصرانيًّا، كمعظم الفلاسفة الذين كتبوا شروحًا على أرسطو في ذلك الوقت في بغداد. والفارابي المسلم، الذي كان فيما يبدو أستاذ ابن عدي، كان استثناء من القاعدة. وحتى تكتمل الصورة المسكونية الشاملة، كان ابن عدي يتبادل الرسائل مع باحث يهودي في الفلسفة يدعى ابن أبي سعيد الموصلي كتب إليه في مسائل عن فلسفة أرسطو مؤمّلًا إيضاحها. ولا ريب أنّ بغداد كانت حاضرة استثنائية، فقد كانت عاصمة الخلافة، ولذلك كانت حاضنة لمختلف الثقافات، جذبت إليها العلماء من جميع أرجاء العالم الإسلامي. إلا أنّ الفلسفة كانت تمثّل ظاهرةً في التلاقي بين الأديان في أزمنة وأمكنة أخرى أيضًا. وأفضل مثال لذلك بالتأكيد إسبانيا الإسلامية التي كانت مشهورة بثقافتها في العيش المشترك. فقد انحدر من الأندلس اثنان من أعظم مفكّري العصور الوسطى وكانا متعاصرَين وهما ابن رشد المسلم وموسى بن ميمون اليهودي. وبعد سقوط طليطلة في يد المسيحيين اشترك ابن داود اليهودي مع غونديسالفي المسيحي في ترجمة مؤلّف للمفكّر المسلم ابن سينا من اللغة العربية إلى اللاتينية.

والمثال الأخير واضح معبّر، فالفلسفة في ذلك الوقت كان ينخرط فيها أتباع أديان مختلفة لأنّها تفترض عادةً الحاجة إلى الترجمة. وقد كاد لا يوجد من بين فلاسفة العالَم الإسلامي من يمكنه قراءة اللغة اللاتينية، ولا حتى ابن رشد، أعظم شارح لأرسطو. وكان لا بد له وللمسلمين الآخرين المتحمّسين للحكمة اليونانية من الاعتماد على الترجمات التي غالبًا ما كان يقوم بها مسيحيون في القرن الثامن والتاسع والعاشر. فقد كانت معرفة اللغة اليونانية محفوظة عند علماء مسيحيين في سورية البيزنطية، وهو ما يفسّر لجوء المشتغلين بالفلسفة من المسلمين إلى مسيحيين لترجمة أعمال أرسطو وبطليموس وجالينوس وغيرهم من المفكّرين القدامى إلى اللغة العربية. ولذلك فإنّ الوجود نفسه للفلسفة ذات التأثير اليوناني في العالم الإسلامي كان تجلّيًّا للتعاون بين الأديان.

ولا يعني كلُّ ذلك أنّ العالَم الإسلامي لم يكن فيه خلاف بين الأديان، بل على العكس، إذ يبدو أنّ أحد أسباب اهتمام أولئك المسلمين بأرسطو كان اكتساب الأدوات التي يعطيها منطقه لمجاراة خصومهم المسيحيين في المجادلات والمناظرات الدينية. ويقدّم الكندي، وهو أول مفكّر مسلم يعوّل على مصادر يونانية، مثالًا حيًّا لذلك، إذ كتب تفنيدًا موجزًا لعقيدة الثالوث استعمل فيه المنطق اليوناني ليجادل في أنّ الله يجب أن يكون واحدًا أحدًا، وليس واحدًا وثلاثة؛ وقد ذكر أنّ القراء المسيحيين ينبغي أن يكونوا قادرين على أن يتّبعوا الحجّة نظرًا لدرايتهم بالمفاهيم المنطقية. والشيء الجميل غير المتوقع في هذه القصة أنّه لم تكن لتحصل معرفتنا بهذا التفنيد إلا بفضل يحيى بن عدي الذي سبق ذكره، فقد أورد كلام الكندي كي يعمد بعد ذلك إلى ردِّ هجومه على العقيدة المسيحية.

فلئن كان رجال مثل الكندي قد تبنَّوا أفكارًا يونانية للذود عن الإسلام والهجوم على المسيحية، لم يستحسن آخرون اجتلاب هذه الأفكار ذاتها إلى الثقافة الإسلامية؛ وقد ردّ الكندي على نقّاد لم تُذكَر أسماؤهم استهجنوا استخدام فلسفة الوثنيين، وخاض مؤسس مدرسة بغداد المسيحية مناظرةً عامّة مع نحوي مسلم حول جدوى المنطق الأرسطي. فسخر النحوي المسلم من ادّعاءات المسيحيين من أتباع أرسطو، وكان مسرورًا بأنْ عرَّضَ بأنَّ كلَّ هذا المنطق لم يدرَأ عنهم الاعتقاد بأنّ الله يمكنه أن يكون بطريقة أو بأخرى واحدًا وثلاثة على حدٍّ سواء.

ومع ذلك، ما زال الحال أنّ الفلسفة والعلوم عمومًا تمنح إلى حدٍّ ما نقطة التقاء أو أرضية محايدة للمفكّرين من مختلف الأديان. فقد كان المسلمون والمسيحيون واليهود الذين تشاركوا في الاهتمام بإلهيات أرسطو أو بنظريات جالينوس في الطب يقرؤون شروح وتعليقات بعضهم البعض حول التراث اليوناني. وهذا ظاهر حتى في الخلافات فيما بينهم، فقد كان استعمالهم المنطق اليوناني للمجادلة في عقيدة الثالوث يشير ضمنًا إلى أنّ ذلك كان موضوعًا يمكن حلّه بالاحتكام إلى العقل. وإنّ كثيرًا من المفكّرين الذين سبق ذكرهم كانوا يرون أنّ الفلسفة تقدّم أفضل مورد لتفسير النصوص المقدّسة، سواء كانت التوراة أو الإنجيل أو القرآن. ولذلك ففي حالة الكندي المسلم وابن عدي المسيحي وابن ميمون اليهودي، لم يكن صدفة أن يحمل الإله الواحد في التراث الإبراهيمي تشابهًا لافتًا للنظر مع الإله في إلهيات أرسطو. على أنّ مشروعهم المشترك باعتبارهم نخبة من الفلاسفة كان يعني أنّ لديهم ما يشتركون فيه بعضهم مع بعض أكثر مما يشتركون فيه مع معظم أهل ملّتهم.

قم بتقييم المحتوي