بين رؤية الهلال والحسابات الفلكية

بين رؤية الهلال والحسابات الفلكية،

هل هو صراع بين العلم والدين؟

مصطفى أحمد ثابت

مدير مبادرة سؤال، باحث رئيس.

يثار كل عام جدل عندما تعلن دار الإفتاء المصرية مناسبة تحرّي هلال شهر رمضان، أو هلال عيد الفطر، حيث تدل الحسابات الفلكية الدقيقة على ميعاد الاقتران المركزي بين الشمس والقمر، وموعد ولادة هلال الشهر الجديد، والتي تكون معروفة بدقة مُسبقًا، فيتساءل بعض الناس باستنكار ما الحاجة إلى تحرّي الهلال من قبل الجهات الدينية بواسطة المراصد الفلكية المنتشرة في أنحاء الجمهورية؟ ما دمنا على علم مُسبَق بموعد ميلاد الهلال الجديد، ألا يعد هذا نوعًا من التخلف وإهمال معطيات العلم التجريبي؟ وبعضهم يتساءل أيضا ولماذا نقف مع ظاهر حديث: «صوموا لرؤيته» الذي قيل للعرب في زمن لم تكن قد توفّرت فيه هذه المعطيات الدقيقة لعلوم الفلك، أما وقد تقدم العلم التجريبي فيكفينا اتباع أقوال الفلكيين فما يخص بداية الشهر، ولا نلتفت للأقوال الفقهية التي تشترط الرؤية، ويستمر الجدال ليظهر أمام بعض الناس كما لو كان صراعا شبيها بما كان في العصور الوسطى بين العلم والدين، وهو الشيء الغير صحيح على الإطلاق.

ما هو الشهر القمري؟

يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحجّ} [البقرة:189] نزلت هذه الآية لما سأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدّل أطواره، فقالا: ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ثم يزيد، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ. فأنزل الله هذه الآية الكريمة، ويلاحظ أن الحق سبحانه في القرآن لم يجب على هذا السؤال بتحديد ما هي حقيقة الشهر فلكيا وكيف تبدأ دورة القمر وتنتهي، ولكنه أرشد إلى الحكمة الشرعية من وجود هذه الظاهرة الفلكية؛ أي فعلنا ذلك ليعلم الناس أوقات الحج والعمرة والصوم والإفطار وآجال الديون وعدة النساء المطلقات والأرامل وغيرها، فالحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون الأهلة معالم للناس يؤقتون بها أمورهم، ومعالم للعبادات المؤقتة يُعرف بها أوقاتها. وخصوصا الحج لأن الوقت مُراعى فيه أداء وقضاء. فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة، وهذا شأن القرآن دائما أنه يرشد إلى ما فيه هداية الناس وصلاح أحوالهم ويدلّهم على ما شرعه الله لهم، فالقرآن ليس كتاب علم تجريبي أو فلك وفيزياء، ولكنه كتاب هداية وشريعة.

أما ما يُسمّى بالسنة الشمسية والسنة القمرية والشهر القمري فكل هذه الظواهر الفلكية فإن الشرع قد ترك تحديدها لأهلها من الفلكيين وأهل الهيئة.

 واحد من أكبر الإشكالات عند المسلم المعاصر في فهم أحكام الشريعة لاسيما من درسوا العلوم التجريبية كالفيزياء والكيمياء الشعور بعدم الارتياح تجاه الأحكام الظنية، والميل الشديد تجاه القطع والجزم.

لذا من أكثر ما يستشكل: لماذا نعرض عن القطع المستفاد من العلوم التجريبية الحديثة مثل الفلك والكوسمولوجي، ونجري وراء الظنون المستفادة من ألفاظ الشرع، وهل قصد النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث كذا أو قصد كذا؟ فعندما يسمع من علماء الفلك أن الاقتران بين الشمس والقمر يبدأ في اللحظة الفلانية واليوم الفلاني، يظن أن هذا وحده كاف في معرفة بداية الشهر، وإذا سمع من علماء الشريعة انتظار رؤية الهلال بعد المغرب رماهم بالجهل والتخلف حتى وإن كانت الرؤية في تلك الحالة ممكنا حسابيا وفلكيا.

ومن رحمة الله بالمسلمين في هذه الشريعة أنه اكتفى منهم في كثير من الأحكام بالاعتماد على الظن، بل أجرى هذا الظن مجرى اليقين، وجعل سبحانه وتعالى كثيرا من الأحكام التعبدية تتعلق على ظاهر الأمر كما يبدو للمكلف لا على نفس الأمر حتى تكون الشريعة مناسبة لجميع الخلق في كل العصور، فمثلا وقت صلاة الظهر معلق على الزوال كما يبدو للناس لا الزوال الحقيقي، فإذا تقدم العلم وعرف الناس أن ضوء الشمس يصل إلى الأرض في حوالي ثماني دقائق بناء على معرفتنا بسرعة الضوء والمسافة بين الأرض والشمس، فإن هذه المعرفة لا تغيّر شيئا من معرفة بسبب الحكم، حتى لو كان الزوال الحقيقي يسبق الظاهر بهذه الدقائق الثمانية، لأن الشريعة كما قلنا علقت كثيرا من الأحكام على ما يظهر للمكلف ولم تطلب منهم هذا التدقيق الزائد مما لا يظهر لغالب الناس بناء على معرفتهم بدقائق العلوم التجريبية أو حتى بحقائق الأمور، ولهذا يقول إمام الحرمين في مقدمة نهاية المطلب إن أحكام الفقه لا تبنى على دقائق علم الكلام ومضايق المعقول، ويقول أيضا ابن حجر الهيتمي في شرحه على المنهاج: عند شرح قول النووي إن أول وقت الظهر زوال الشمس، فقال شارحا: أي عقب وقت زوالها أي ميلها عن وسط السماء المسمى بلوغها إليه بحالة الاستواء باعتبار ما يظهر لنا لا نفس الأمر.

وقال الخطيب الشربيني أيضا في شرحه على المنهاج: يعني يدخل وقتها بالزوال كما عبر به في الوجيز وغيره، وهو ميل الشمس عن وسط السماء المسمى بلوغها إليه بحالة الاستواء إلى جهة المغرب لا في الواقع بل في الظاهر؛ لأن التكليف إنما يتعلق به. اهـ

فإذا تقدم العلم، وعرفنا بعد الشمس عن الأرض، وسرعة الضوء، وأن الزوال حصل قبل رؤيتنا له بزمن وصول الضوء، لم يتغير وقت دخول صلاة الظهر، لأن الشارع علقه على الزوال المرئي، لا على الواقع في نفس الأمر، وليس في ذلك إنكار لشيء من العلم، لأنا نصدق ما أثبته العلم، ونقطع به، ولكنا نقول إن الشارع لم يعلق الحكم بالأمر الحقيقي في الواقع حتى يتغير بتغيره، أو بتغير إدراكه، إنما علق الحكم بالظاهر للعين، المدرك بسهولة لعموم الناس، وهو أمر لم يتغير بعد ما تغير علمنا

ومثال على هذا أيضا أنه لو علق بالثوب شيء من النجاسات التي لا تدرك بالعين الظاهرة بل كانت ذرات في منتهى الدقة لا تدرك إلا بالميكروسكوب جزمنا، بوجود هذه الذرات على الثوب ولم يتغير حكمنا بطهارة الثوب، لأن الشرع علق الحكم على ما يدرك بالعين لعموم الناس، ولهذا لا يجب إعادة الصلاة لو كان الثوب فيه نجاسة خفية وتجب الإعادة إن كان فيه نجاسة ظاهرة لأن المكلف لم يقصر في الحالة الأولى بحسب وسعه وطاقته بينما قصر في الثانية، وفيه هذا رحمة وسعة على المكلفين وأي رحمة وسعة، وغلق لباب الوسوسة والحرج على الناس.

ومن نفس الباب مسألة دخول شهر رمضان والإفطار المُعلّقين على حديث صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان.

ويتضح مما سبق أن الأسباب التي جعلها الشرع معرفات على الأحكام التعبدية ليست مؤثرة في العبادات بذاتها عقلا أو عادة أي ليس لها وجود ذاتي في الواقع وإنما صارت علامة على الأحكام بوضع الشارع لها.

من ضمن الأسئلة المتكررة التي تسأل : إننا نعتمد في حساب مواقيت الصلاة الخمسة، على الحسابات الفلكية الدقيقة، ثم لا نكتفي بالحساب في وجوب صيام شهر رمضان، لكن نلجأ إلى الاستطلاع والرصد والرؤية وهذا تناقض واضح من الفقهاء؟

والحقيقة أن الفقهاء أجابوا على هذا السؤال من حوالي ألف سنة، وليس هناك تناقض، لأن الشريعة كما شرعت للناس العبادات فهي كذلك شرعت أسبابها المعرّفة لها، والوقوف عند هذه الأسباب يتحقق به مقصود الشارع، لاسيما في الأحكام التعبدية غير المعقولة المعنى، فالشارع في مواقيت الصلاة أرشد إلى أن من أسباب وجوب الصلاة دخول الوقت وحصوله مثل زوال الشمس، فقال: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، فقال الفقهاء إن سبب وجوب الظهر هو حصول الزوال من حيث تعلق إدراكنا به، وظهوره لنا، ويكفينا أن ندرك هذا الحصول بأي صورة كانت، وقال الحق أيضا: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فجعل فعل (يتبين لكم) الدال على الإدراك والتحقق والعلم علامة لدخول وقت الفجر بأي طريقة كانت، بينما جعل سبب وجوب صيام رمضان هو رؤية الهلال وليس وجوده في السماء، وفهموا ذلك من قوله: صوموا لرؤيته.

وكما قلت من قبل المسألة ليست محل إجماع، بل هناك من أجاز الاعتماد على الحساب والاستئناس به في رؤية هلال رمضان بشروط سنذكرها، لكن المهم أن يفهم المسلم المعاصر أن جمهور الفقهاء من الحنفية وكثير من الشافعية والمالكية والحنابلة الذين لم يعتمدوا على الحساب واكتفوا بالرؤية كان مستندهم النظر في النصوص الشرعية وتطبيق القواعد وليس التقليل من قدر علم الفلك والهيئة، أو تكذيبهم لمعطياته، بل كان أكثر المشتغلين بالهيئة والفلك من الفقهاء، وكانوا هم القائمين بدراسته وتدريسه.

ولذلك يقول الإمام القرافي في كتابه الفروق: (الفرق الثاني والمائة بين قاعدة أوقات الصلوات يجوز إثباتها بالحساب والآلات وكل ما دل عليها،،، وبين قاعدة الأهلة في الرمضانات لا يجوز إثباتها بالحساب).

ثم قال: وفيه قولان عندنا وعند الشافعية رحمهم الله تعالى والمشهور في المذهبين عدم اعتبار الحساب، فإذا دل حساب تسيير الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة علم الهيئة لا يجب الصوم، مع أن حساب الأهلة والكسوفات والخسوفات قطعي؛ فإن الله تعالى أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب على نظام واحد طول الدهر بتقدير العزيز العليم، والعوائد إذا استمرت أفادت القطع، وإذا حصل القطع بالحساب ينبغي أن يعتمد عليه كأوقات الصلوات فإنه لا غاية بعد حصول القطع.

ثم قال: والفرق وهو المطلوب هاهنا وهو عمدة السلف والخلف أن الله تعالى نصب زوال الشمس سبب وجوب الظهر.

وكذلك بقية الأوقات لقوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس} أي لأجله، وكذلك قوله تعالى {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} فالآية أمر بإيقاع هذه الصلوات في هذه الأوقات وغير ذلك من الكتاب والسنة الدال على أن نفس الوقت سبب، فمن علم السبب بأي طريق كان لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات.

وأما الأهلة فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سببا للصوم بل رؤية الهلال خارجا من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي فلا يثبت الحكم، ويدل على أن صاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سببا للصوم قوله – صلى الله عليه وسلم – «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» ولم يقل لخروجه عن شعاع الشمس، كما قال تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس} ثم قال «فإن غم عليكم» أي خفيت عليكم رؤيته «فاقدروا له» فنصب رؤية الهلال أو إكمال العدة ثلاثين، ولم يتعرض لخروج الهلال عن الشعاع. اهـ باختصار.

والمقصود من كلام القرافي هنا أنه قال: (مع أن حساب الأهلة قطعي)، فهو لم يكن غافلا عن الفرق ولا جاهلا بالفلك وما يفيده من حساب الشهور من القطع الذي لا شك فيه.

وهذا معنى قولي في منشور سابق أن تحديد معايير وجوب الصوم والفطر هي قضايا شرعية وليست فلكية أو تجريبية، والمقصود أن خطاب الشارع هو الذي يحدد الأسباب أو الأحكام الوضعية المتعلقة بتعريف بالعبادات، ثم يبدأ المسلم بالنظر في كيفية تحقق هذه الأسباب على أرض الواقع، فهناك فرق بين ما ينشئه الشرع ابتداء من أحكام،، وبين ما يُرتب أحكامه عليه من المعرفة بالواقع.

قم بتقييم المحتوي