هذه هي الحقيقة! الآيس كريم غير مسؤول عن زيادة أعداد الغرقى في البحر، والشمس لا تشرق بصياح الديك، وأكل الفراخ لا يصعد بك إلى القمر. والسبب في ذلك أن التساوق وهو حدوث شيئين معًا في وقت واحد لا يعني أن أحدهما سبب في وجود الآخر. فإنه يلاحظ في فصل الصيف زيادة عدد حوادث الغرق في البحر، ويلاحظ أيضًا زيادة مبيعات الآيس كريم. فهل هذا يدل أن حوادث الغرق سببها زيادة مبيعات الآيس أو أن سبب زيادة مبيعات الآيس كريم هو زيادة عدد حوادث الغرق؟! وكذلك، فنحن نسمع صياح الديك كل يوم مع شروق الشمس، فهل هذا يعني أن الشمس تشرق بسبب صياح الديك؟! وأيضًا إذا قلنا: كل من صعدوا إلى القمر كان طعامهم المفضل هو الفراخ، فهل هذا يعني أن الفراخ هي السبب في صعودهم إلى القمر؟! فاعتقاد أنه لمجرد الاشتراك في زمان الحدوث أو لمجرد مصاحبة شيء لشيء يفيد السببية، أي أن أحدهما سبب في حدوث الآخر، غير صحيح البتة، بل هو من أشهر وأخطر المغالطات المنطقية على الإطلاق. وهذا لأن هذه المغالطة تنطوي على إشكالات ثلاثة.
الإشكال الأول في هذه المغالطة هو عدم الانتباه إلى أن السببية لا تتحقق بمجرد الملازمة بين أمرين المدرَكة بالحس والمشاهدة. فإنه لابد من امتحان هذه الملازمة وعدم التسليم بالنظرة الأولى التي يسميها البعض بـ«النظرة الحمقاء». فإن الشيء قد يظهر لأول وهلة أن حقيقته كذا وكذا، ولكن بعد اختباره بالتجربة يكتشف أن التصور الأول والفكرة المبدئية عنه خطأ، بل قد تكون على النقيض من واقع الأمر. والحقيقة أن معنى السببية هو أنه إذا ادعينا أن وجود (أ) هو سبب وجود (ب)، فيلزم عن هذا أنه في حال عدم وجود (أ) لا يوجد (ب). وهذا يظهر بالفحص لا بالانطباع الأولي أو المشاهدة الأولى. بل حتى تكرار المشاهدة في حد ذاته لا يفيد السببية، وإنما يفيدها ما ذكرناه من امتحان التلازم بين السبب والمسبب.
وأما الإشكال الثاني في هذه المغالطة هو أنها مبنية على عدم الالتفات إلى أن الأشياء غالبًا لا تقع عن سبب واحد. فإن الظواهر التي نشهدها في حياتنا اليومية هي عادة نتاج مجموعة من الأسباب المتشاركة. فإن تفوق الطالب في المدرسة لا ينبغي الحكم بأن سببه هو تناول الفطور بالمدرسة كما ادعته بعض الدراسات التجريبية في الغرب. فإنهم اعتمدوا على الارتباط بين الأمرين، وقد تكون حقيقة هذا الارتباط هي شيء آخر غير السببية، كاشتراك مثلًا في سبب واحد، أي أن كلاهما صدر عن سبب واحد مشترك. ثم مع فرض التسليم بأن تناول الفطور بالمدرسة هو سبب للتفوق بالفعل، يبقى السؤال: هل هو سبب بفرده أم هو سبب مع أسباب أخرى مجتمعة؟ وليس المراد باجتماع الأسباب اجتماعها على أي وجه كان، بل اجتماعها على نحو معيّن، لأن اجتماع الأشياء الكثيرة من الممكن أن تتعدد صوره وكيفياته، وقد يتغير المسبب بتغير هيئة اجتماع الأسباب. وقد أشار الإمام حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه إلى هذا المعنى في كتابه «القسطاس المستقيم» حيث قال: «واعلم أن الأكثر أن الأحكام تتوقف على وجود أسباب كثيرة مجتمعة».
وأما الإشكال الثالث في مغالطة «التساوق يفيد السببية» هو أنَّ مَن يعتاد الوقوع في هذه المغالطة ويألفها غالبًا لا يفرق بين الأسباب القريبة والأسباب البعيدة، وذلك لأن نظرته للعلاقة بين الأسباب والمسببات متسرعة كما تبين من الإشكال الأول ومحدودة كما تبين من الإشكال الثاني. وهو في وصف الإمام الغزالي كـ«النملة لو خلق لها عقل وكانت على سطح قرطاس وهي تنظر إلى سواد الخط يتجدد فتعتقد أنه فعل القلم ولا تترقى في نظرها إلى مشاهدة الأصابع ثم منها إلى اليد ثم منها إلى الإرادة المحركة اليد ثم منها إلى الكاتب القادر المريد ثم منه إلى خالق اليد والقدرة والإرادة؛ فأكثر نظر الخلق مقصور على الأسباب القريبة السافلة مقطوع من الترقي إلى مسبب الأسباب».
وفي الختام، يظهر لنا أن الترتيب في الحدوث لا أثر له في الحكم بالسببية بين أمرين. نعم، يفيد أن ثمة اشتراك ما بينهما. فإن التساوق بين زيادة مبيعات الآيس كريم وزيادة عدد حوادث الغرق في البحر يفيد أن بينهما اشتراك، وهو حرارة فصل الصيف الذي دفع الناس إلى تناول الآيس كريم والهروب إلى شواطئ البحر.
بيتر أدامسون
أستاذ الفلسفة العربية في جامعة لندن