كتبته: أستاذة صفية الجفري – ماجستير في أصول الفقه
العدالة: تحرير المفهوم
تتناول هذه المقالة سؤال العدالة المتعلق بالزوجة في الإسلام في محاولة لتحديد الإشكالات الرئيسة في هذه القضية، و لمقاربة الجواب عن هذه الإشكالات.
هل كان الإسلام عادلا مع الزوجة فجعلها في مرتبة متساوية مع الزوج من حيث الكرامة الإنسانية، ومن حيث الواجبات والحقوق؟
الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تناولت قضية العدالة بين الجنسين تجيبنا عن هذا السؤال بنعم، فالمرأة والرجل متساويان في أصل التكليف، وفي ترتب الثواب والعقاب على أفعالهما، وفي التكريم الذي اقتضته آدميتهما، يقول الله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) [الإسراء : 70]، ويحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أن النساء شقائق الرجال .
هذه الإجابة العامة يجعلها العلماء أصلا محكما في تقرير حقوق الزوجين في الإسلام، الرجل والمرأة كلاهما في مرتبة واحدة من حيث الكرامة الإنسانية، واحترام الحقوق في حياة لا حرج فيها ولا ضرر ولا عنت .
وعندما تحدث العلماء عن أن الشريعة جاءت محققة لمصالح العباد، لم يفرقوا بين الذكر والأنثى في ذلك.. أين الإشكال إذن؟
الإشكال هو في تحرير مفهوم العدالة، الذي هو تبع لتحرير مفهوم المصلحة، فالمصلحة كما عرّفها الإمام الغزالي هي: (المحافظة على مقصود الشرع)[1].
ويقول الإمام ابن عاشور: ( قد جاءت الشريعة بمقاصد تنفي كثيرا من الأحوال التي اعتبرها العقلاء في بعض الأزمان مصالح، وتثبت عوضا عنها مصالح أرجح منها . نعم ، إن مقصد الشارع لا يجوز أن يكون غير مصلحة، ولكنه ليس يلزم أن يكون مقصودا منه كل مصلحة) [2].
ولتحرير مفهوم العدالة في مسألة الحقوق بين الزوجين في الإسلام فإن النظر في القرآن الكريم يقودنا إلى تقرير مبدأ التماثل بين الحقوق والواجبات، ويعد هذا التماثل بما يتضمنه من اختلاف في الصفة والكيفية هو مظهر تحقيق العدالة.
قال إمام الحرمين الجويني في قوله تعالى: ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) [البقرة : 228]، ” فاقتضى الظاهر تشبيه ما لهن بما عليهن، وهذا التشبيه في أصل الحق، والحقان متشابهان في التأكد ووجوب الوفاء به، وليسا متشابهين في الكيفية والصفة”[3].
ونفهم هذا التماثل من قوله تعالى: ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن) [النساء :32].
ويتحدث الباحثون في الفقه الإسلامي عن أن هذا التماثل هو تكامل تحصل به العدالة ويلائم الاختلاف في الخصائص بين الجنسين، ورغم ما أجده في هذا القول من وجاهة في بعض تطبيقاته كما في تكليف الزوج بالنفقة على زوجته إلا أني لا أستطيع أن أسلم بشكل مطلق إلا بأن التماثل عدل أما حصول التكامل بذلك فهذا مما لا أستطيع الجزم به؛ ذلك أن في التشريعات القطعية قدرا من التعبّد الذي قد لا ندرك حكمته الخاصة وإن كنا ندرك كونه محققا لمصالحنا تبعا لإيماننا بأن الإسلام دين حق وعدل، ولم يأت إلا بما هو حق وعدل.
إذن حديثنا عن أن الإسلام أعطى الجنسين حقوقهما الكاملة هو حديث فيه قدر من الإبهام المرتبط ببعض المسائل التي قد لا نتبين حكمة التشريع فيها. وهذا الإبهام يجعل مفهوم العدالة مفهوما لا تستبين لنا بعض الأحكام المتعلقة به كحق الرجل في تعدد الزوجات.
ولكن المطمئن هنا هو أن تعبدية الحكم في فضائه التكليفي لا يقف عائقا أمام الاستفادة من الكليات المقاصدية القطعية في التنزيل الوضعي للحكم على واقع المكلفين .
والسؤال هنا:
هل يصح لنا القول إن الإبهام الذي يكتنف مفهوم العدالة بين الزوجين في الإسلام هو إبهام نظري لا تطبيقي لأن خطاب الوضع يكفل في تنزلاته درء كل حرج قد يفسد حق الزوجة في حياة آمنة لا عنت فيها.
يتحدث الإمام القرافي في نفائس الأصول عن أن تقييد النص الجزئي في بعض الأحوال بالمصلحة الطارئة جائز وأن عدم اعتبار المصلحة الطارئة مع النص إنما يكون في حال مناقضتها للنص، والتقييد في بعض الأحوال ليست مناقضة [4].
بين القطع والظن:
من المهم التنويه إلى أن القطعيات الفقهية في مسائل المرأة لم تحصر بعد، وحصرها يحمي الناس من تشويش المتسوّرين على الكلام في العلم الشرعي ممن لم يتأهلوا لذلك.
نعم غير المتخصص يجب عليه اتباع العلماء، ومذهبه مذهب مفتيه، وعليه فإنه لا يحتاج إلى معرفة رتبة الحكم من حيث القطع والظن لأن الله تعبّدنا بغالب الظن الذي يترجح في نفس المجتهد كما تعبدنا بالقطع.
لكني أجد أن تصدّر من لم يتأهل من المثقفين للكلام في علوم الشرع فتن بعض الناس ولبّس عليهم دينهم وصار القطعي مجالا للنظر والاجتهاد في تقرير الحكم أصالة لا في تنزيله على واقع المكلفين.
حصر القطعيات ليس مهما فقط في قضية حماية العوام من التشويش، لكنه يسهم في إعادة صياغة الفكر الجمعي بما يخفف من غلواء التعنت حيال مسائل هي محل اجتهاد مما يعين على تفاعل حي مع ما تفتضيه أحوال الزمان من متغيرات.
في كتابي (الثبات والتغير في الحكم الفقهي) درست مسألة الثابت والمتغير في الحكم الفقهي دراسة أصولية وتناولت مسألة حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل من حيثية التعرّف على الثابت القطعي في هذه المسألة، وكانت النتيجة بالنسبة لي مفاجئة، والطريق إلى اكتشافها كان محمّلا بالمفاجآت أيضا.
القول الشائع في هذه المسألة هو أن حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل هو حق خالص له يقتضيه حق القوامة، وقد ظللت لسنوات أظن أن هذا ابتلاء الله للنساء الذي لا نملك الاعتراض عليه ..
كنت أشعر أن هذا الحق يجعل البيت بالنسبة للمرأة كسجن مفاتيحه بيد الزوج وأن الزوجة إن كانت محظوظة حظيت بزوج يكرمها ولا يسجنها وإلا كان الحبس متى شاء هو حق لزوجها يجب عليها أن تطيعه فيه ولا تخالفه.
وكانت المفاجأة حقا بمعرفتي أن هذا الحق فيه نوع تقييد في منصوص مذهب الحنفية والمالكية لكن المفاجآت بالنسبة لي توالت بعد أن درست كلام العلماء في المذاهب الأربعة دراسة تحليلية و قرأت كلامهم قراءة تستحضر السياقات الكلية التي صدر منها الفقيه، والمتعلقة بالقواعد الفقهية ، والمصالح المرتبطة بعصره ، ورؤيته المنبثقة عن ثقافته الاجتماعية ، ووجدت أن في كلام بعض العلماء رؤية تؤسس لقراءة مختلفة عن القراءة السائدة للنصوص الواردة في المسألة . وقد قادتني هذه القراءة إلى نتيجة مختلفة أيضا ، وهي أن الحق في تقييد الخروج من المنزل هو حق مشترك بما لا يضر مصالح الزوج أو الزوجة . فليس للزوج أن يمنع زوجته من خروج لا يضره، وعليه ألا يخرج من المنزل أو يهجرها فيه على وصف يضر بها [5].
ذكرت لكم هذه المسألة كمثال على المسائل التي شاع بين الناس أنها من المسائل المتفق عليها بين العلماء والأمر فيها ليس كذلك.
بل إن مذهب الشافعية رغم تشدده ظاهرا في هذه المسألة -حيث نص علماؤه على أن الزوجة ليس لها أن تخرج من بيت زوجها بغير إذنه إلا لضرورة أو ما قاربها -[6]إلا أننا نجد في أصوله نصا مهما لإمام الحرمين الجويني في كتابه (البرهان) ناقش فيه ما سماه: (مغمضات من قضايا الأصول) كقول الشافعية إن المعاشرة الجسدية هي حق للزوج ولا حق للزوجة فيها إلا على سبيل الندب وقال: (والأمر مبني على أحوال الملتزمين الشريعة، المعظمين لها) [7].
و السؤال هنا:
أليس في هذا الملمح الذي حدثنا عنه إمام الحرمين الجويني وهو أن هذه الأحكام مبنية على أحوال الملتزمين الشريعة، المعظمين لها ما يجعلنا نراجع تلك الأحكام في نور قاعدة (تغير الأحكام بتغير الزمان) ، فحيث تزعزعت الأوضاع الاجتماعية، وعم تراجع الأخلاقيات النبيلة بين الناس، فقد وجب فتح مجال النظر المستضيء بنور النصوص، والمقاصد الشرعية لتقرير أحكام تلائم واقع الناس بحسب ما يستجد في حياتهم، وما يطرأ على أخلاقهم وأحوالهم، درءا للمفاسد، وجلبا للمصالح المتصلة بحماية المجتمع المسلم من آفات تهدّم العلاقات، وانهيارها .
الفقه التراثي وإغاثات التجديد :
وإذا كان سؤال العدالة يحتاج منا إلى تسليم في بعض القطعيات الفقهية، وأقول بعضها لأن فقه الضرورات قد يتغير في ضوئه الحكم الأصلي إذا طرأت عليه مصلحة يصح اعتبارها وهو تغير من حيثية تنزيل الحكم على واقع المكلف لا من حيثية الاقتضاء الأصلي للدليل.
أقول: وإذا كان سؤال العدالة يحتاج منا إلى تسليم في بعض القطعيات الفقهية فإن ما يقابل القطعيات من ثروة فقهية ظنية ينبغي أن يكون مقصدا للدراسة والبحث والموازنة لا أقول لأجل أن نستنبط أحكاما مستحدثة مع أن ذلك غير ممتنع إذا صدر من المؤهلين ولكن لأجل أن نروي جدب حياتنا الاجتماعية بفقه جديد من الأقوال التي نص عليها العلماء والمنثورة في كتبهم بمنهجية محكمة يعلم بواسطتها ميزان القول، وسياقاته، وأفقه المقاصدية.
نحن لدينا إشكال حقيقي في مسألة التعامل مع الفقه التراثي بين جامد على منصوصه دون نظر في سياقات ذلك المنصوص وحمولته المقاصدية، وبين مزدر له غير مدرك لعمقه المنهجي والإنساني، وبين مقبل عليه إقبالا يفتقر إلى المنهجية فيخرج لنا بنتائج تصادم قطعيات الشريعة.
إن الصواب في التعامل مع الفقه التراثي يحصل بأمرين :
أحدهما :
قراءته قراءة تستحضر النموذج المعرفي الخاص الذي جاء به الإسلام في فقه العلاقات الإنسانية.
والثاني:
الالتزام بمناهج أهله التي أخذوها عن سلفهم كابرا عن كابر، وهذه المناهج فيها من السعة ما يكفل تجديدا للفكر الفقهي بما يلائم عقول أهل هذا الزمان في فهمها الحقوقي، ونظرتها إلى العدالة .
ثم إننا نجد في كلام بعض العلماء حثا للمفتي على ذكر جميع الأقوال في المسألة للمستفتي ولو كانت هذه الأقوال ضعيفة مذهبيا ليتخير منها المستفتي ما يلائم حاله ما دام لا يترتب على أحدها مفسدة معتبرة .
وقد وجد هؤلاء العلماء في هذا المسلك في الفتيا رفعا للحرج والمشقة عن الناس، فقد أمر غير المؤهلين علميا باتباع أهل الذكر، وما دام القول صدر عمن يصح اجتهاده، وتأكدت نسبته إليه بضوابطه جاز لهم الأخذ به وإن لم يكن قولا معتمدا في المذاهب الأربعة [8].
وممن تبنى تخيير المستفتي بين أقوال المجتهدين -وإن لم تكن معتمدة في مذاهبهم التي ينتسبون إليها ما دام صح نقلها عنهم بضوابطها ولم يترتب على أحدها مفسدة ظاهرة في حق المستفتي- السيد أحمد بن حسن العطاس المتوفى عام 1334ه ـ
ينقل السيد محمد أحمد الشاطري -المتوفى عام 1422هـ- في كتابه ( شرح الياقوت النفيس) عن السيد أحمد بن حسن العطاس أنه كان يفتي المتوفى عنها زوجها من عوام الناس أن إحدادها في ترك النكاح مدة العدة ولا زيادة على ذلك وكان يقول إن تكليف عوام النساء من أهل البادية بما زاد على ذلك مما يشق عليهن، ويجعلهن ينفرن من الدين، ونعلم من حالهن أنهن لن يلتزمن بقول الجمهور لو ذكرناه لهن، فكان يختار الإفتاء بقول الحسن البصري في المسألة جمعا لهن على دين الله ورفقا، ورحمة .
ينقل السيد الشاطري هذه المسألة عن السيد العطاس ولا يقره في اعتماد رأي الحسن البصري لكنه يسلّم للسيد العطاس العلم والفقه [9].
ونجد في فقه الشافعية قولا اختاره بعض علمائه وهو أن المرأة إذا غاب عنها زوجها، وانقطع خبره، ولم يترك لها نفقة، ولم تستطع إثبات ذلك عند القاضي، فلها أن تستقل بفسخ النكاح وعليها أن تشهد على ذلك [10].
ولست هنا بصدد مناقشة المثال تفصيلا، لأني أجد فيه إشكالات ترتبط بتصوّر الضرر فقهيا، وكذا ترتبط بالسياق القانوني للواقعة، لكني سأناقش مسألة محددة تضمنها، وهي إعطاؤهم الزوجة حق الاستقلال بالفسخ مع الإشهاد حيث تعذر عليها إثبات الضرر الواقع عليها في خصوص عدم تحصيل نفقتها، قالوا وينفد الفسخ ظاهرا وباطنا [11].
فقولهم هذا شاهد على ما يمكن للفقه التراثي الظني أن يقدّمه من إغاثات حيال تعقيدات الحياة الاجتماعية وعلى ما يمكن أن نظفر به من كنوز فقهية تتناثر في كتب المذاهب المعتمدة، وكيف أننا من الممكن أن نقدم بها تجديدا لفقه المرأة يجيب عن كثير من أسئلة العدالة في عصرنا.
وختاما: فإن جواب سؤال العدالة في حقوق الزوجة في الإسلام ليس له صيغة منصوصة إلا في مسائل جزئية محصورة تعبدنا الله بها، وتسليمنا بها هو تبع لإيماننا المجمل بأن ديننا دين حق وعدل، لكننا بحاجة إلى تحديد هذه المسائل الجزئية القطعية وحصرها، ثم بحاجة إلى دراسة إمكانية التجديد فيها من طريق خطاب الوضع ، أما ماعدا ذلك من مسائل فمجال الاجتهاد فيها أوسع، ونموذجنا المعرفي الخاص، وتراثنا الفقهي، وقواعدنا الفقهية، ومقاصدنا الشرعية، كل ذلك فيه ما يمكن لنا الاستنارة به، و استثماره لتقعيد فقه جديد يوائم أحوال هذا الزمان، وحضارته .
وأستحضر هنا كلام الإمام الزركشي في البحر المحيط وفيه مزيد بيان وتحرير لقضية التجديد الفقهي، يقول: “فلا نقول إن الأحكام تتغير بتغير الزمان بل باختلاف الصورة الحادثة.. وكل ذلك فإنما هو استنباط من قواعد الشرع لا أنه خارج عن الأحكام المشروعة، فانظر ذلك فإنه عجيب”