ابن سينا ضد النفعية!

أحمد حسين الأزهري

كتبه: أحمد حسين الأزهري

كنت أطالع كتاب «التعليقات» لفيلسوف الإسلام الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا واستوقفتني عبارته: «الأشياء النافعة لنا قد نسمِّيها خيرات، وليست هي بالحقيقة خيرات». انتبهت في كلامه إلى التفرقة بين النفع والخير، وأنه لا ينبغي أن نحكم على فعل من الأفعال بأنه خير بالنظر فقط إلى النفع المترتب عليه. وذلك لأن النفع ليس هو الفعل ذاته، بل هو أثر من آثار الفعل، ولا يحيط عقل من العقول بكل آثار فعل من الأفعال، فربما يكون الفعل نافعًا من وجه مضرًا من وجه أو وجوه أخرى. بالإضافة إلى أن النفعية معيار نسبي لا ينضبط. فهل المنفعة هي السعادة أو اللذة؟ سعادة الفرد أم سعادة المجتمع؟ وما هي اللذة؟ اللذة الحسية أم اللذة المعنوية؟ وما هو ضابط كل واحد من هذه الأمور؟ ومن هنا تخالف فلسفة ابن سينا المذهب النفعي في الأخلاق الذي أسس له جيرمي بنثام ثم جون ستِوَارت مِل، وله صلة بالفيلسوف اليوناني إبيقور؛ وهو مذهب قائم على التسوية بين الخير والمنفعة، فالفعل الذي لا يؤدي إلى منفعة ليس خيرًا، والعكس بالعكس. ثم اختلفت تأويلات المنفعة عندهم إلى أقوال شتى ليس هذا مقام ذكرها مفصلةً.

وهذه العبارة الرائقة التي قالها ابن سينا في كتاب «التعليقات» هي بصورة أو أخرى تعبير فلسفي عن معنى جميل ورد على لسان أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد روى الإمام أحمد في «المسند» عن سيدنا رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «أتانا بعض عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا وطواعية رسول الله صلى الله عليه أرفع لنا وأنفع».

فهذا الصحابي الجليل كان يرى صورةً من صور التعاقدات التجارية نافعة ماديًا ويعود عليه منها فائدة، ولكن لما ورده النهي النبوي الشريف أذعن له لحقيقة مستقرة في ذهنه، وهي أن الأوامر والنواهي الشرعية كلها خير، وسبب خيريتها ليس لأنها بالضرورة توائم أغراضنا الآنية وطموحاتنا الدنيوية، وإنما خيريتها مستمدة من خيرية مصدرها.

وهذا الامتثال للنهي النبوي – الذي هو وحي من الله تعالى – نابع أيضًا من الاعتقاد في أن الخالق سبحانه وتعالى عليم حكيم، وأن أفعاله تعالى تشتمل على حكم شتى ومصالح للعباد، ربما ندرك منها البعض وقد لا ندرك البعض الآخر. وذلك لأن لله تعالى الكمال المطلق في ذاته وصفاته، وهذا يقتضي أن أفعاله وأحكامه أيضًا متصفة بهذا الكمال. قال السيد الشريف الجرجاني رضي الله عنه: «كمال الله تعالى في ذاته وصفاته يقتضي الكمالية في فاعليته وأفعاله، وكمالية أفعاله تقتضي أن يترتب عليها مصالح راجعة إلى عباده».

وهذا المعنى الذي ورد على لسان العلامة الجرجاني استفاده تلميذ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي رضي الله عنه وهو الشيخ الكبير صدر الدين القونوي رضي الله عنه من قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]. فإننا لما عرفنا أن الله تعالى له الكمال المطلق وأنه سبحانه مصدر كل كمال، عرفنا أيضًا أن الأحكام الصادرة منه سبحانه تصدر منصبغة بذلك الوصف الكمالي، فليس ثمة حكم من أحكامه تعالى إلا وهو كامل ومشتمل على فوائد وحِكَم وأسرار، ولكن لا يحيط بها علم البشر.

وللشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا فقرة يعبر فيها عن ذات المعنى ولكن بلغته الفلسفية المعهودة فيقول: «النظام الحقيقي والخير المحض هو ذات الباري، ونظام العالم وخيره صادران عن ذاته. وكل ما يصدر عن ذاته – إذ هو نظام وخير – يوجد مقترنًا بنظام يليق به وخير يليق به، إذ الغاية في الخلق هو ذاته. وهذا النظام والخير في كل شيء ظاهر، إذ كل شيء صادر عنه، لكنه في كل واحد من الأشياء غير ما في الآخر، فالخير الذي في الصلاة غير الذي في الصوم».

فإذن المذهب النفعي اعتبر أن مفهوم الخيرية يساوي مفهوم المنفعة وأن خيرية الأفعال إنما تعرف بالنظر إلى النفع المترتب عليها، ولكن احتارت عقول أصحاب هذا المذهب واختلفت في تعيين المعيار الذي ينضبط به مفهوم المنفعة. وأما ابن سينا فإنه يرى أن الخير المحض – وهو الحق تعالى – هو منبع كل خير، وأن الخير يسري مع أحكام الله تعالى، لأن الصفات لها حكم الموصوف، فإذا كان الموصوف خير محض، فكذلك صفاته وأحكامه خير محض؛ وإذا كان الموصوف له الكمال المطلق، فكذلك صفاته وأحكامه لها الكمال المطلق. فلا يشك ابن سينا حينئذ – وكل من يرى رأيه – أن الأفعال التي أمر بها الخالق جل وعلا تنطوي على خيرات كثيرة وإن لم يحط بمعرفتها الإنسان.

ويبقى لنا أمر لا بد أن نشير إليه في عبارة ابن سينا التي افتتحنا بها الكلام. فإن قوله: «الأشياء النافعة لنا قد نسمِّيها خيرات، وليست هي بالحقيقة خيرات» فيه إشارة إلى أن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني. فالمفاهيم تتحدد بالنظر العقلي، والعبرة بالأمر في ذاته، لا بحسب ما يطلق عليه الناس أو بالنظر إلى تسمية الأفراد له. وهذا أمر لطالما نبَّه عليه حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه وذكر أن أكثر الأخطاء التي يقع فيها الناس في العلوم العقلية راجع إلى عدم الالتفات إلى أن الحقائق لا تؤخذ من الاصطلاحات اللفظية. وهو أمر يستحق أن نُفرِد له مقالًا خاصًّا به إن شاء الله تعالى. والله الهادي لا رب سواه.

قم بتقييم المحتوي