وجوه إعجاز القرآن الكريم
قد يسأل سائل: إذا كان القرآن هو معجزة النبي الخالدة فهل يقتصر إعجازه على اللغة فقط أم أن هناك وجوها أخرى لإعجازه؟ وهل إعجازه مقتصر فقط على العرب أم أنه يتعداهم إلى غيرهم؟
والإجابة عن هذا السؤال تتم على محورين:
- بيان وجوه إعجاز القرآن الكريم.
- رد الشبهات التي قد ترد على هذه الوجوه.
فنقول في المحور الأول: إن علماء المسلمين اتفقوا على تعريف القران الكريم بأنه كلام الله المنزل باللفظ العربي من عند الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم المنقول الينا بالتواتر المتعبد بتلاوته المتحدى بأقصر سورة منه للإعجاز. ثم اختلف العلماء بعد ذلك حول مفهوم الإعجاز وعمق دلالاته، وتنوعت مناهج البحث في تناول هذا الموضوع، وكثرت البحوث والمؤلفات فيه قديما وحديثا، فقد شهد القرن الثانى وأوائل القرن الثالث الهجريين جهودا عظيمة لإبراز أوجه إعجاز القرآن الكريم المتعددة. فنهض الجاحظ في القرن الثالث الهجرى وصنف كتابا سماه: نظم القرآن، وهو كتاب غير موجود، وإنما تشير إليه المراجع الأخرى سواء من كتبه او كتب غيره، وتوالت الكتب في هذا الباب بعد ذلك. فالسيوطي مثلا في كتابه معترك الأقران قد ذكر خمسة وثلاثين وجها من وجوه إعجاز القرآن، بل إن وجها واحدا قد استغرق أكثر من ثلثي الكتاب، وهو في (ألفاظ القرآن المشتركة)، وقال في أول كلامه فيه: “وهذا الوجه من أعظم وجوه إعجازه، حيث كانت الكلمة الواحدة قد تتصرف إلى عشرين وجها، ولا يوجد ذلك في كلام البشر». وهكذا باقي الوجوه لو تُتبعت لزادت عن المائة وجه. بل إنه فصّل القول في كتاب الخصائص في وجوه إعجاز القرآن بعملية حسابية، فبلغت تلك الوجوه بضعة ألوف، ثم قال: والصواب انه لا نهاية لوجوه إعجازه.
وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن أوجه إعجاز القرآن عشرة:
- النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وغيرهم وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذرّ قال لأبي ذر: لقيت رجلا في مكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. فهذه شهادة من أهل الفصاحة والبلاغة ومع ذلك فهو مقر باعجاز القرآن وصدق النبي صلى الله عليه وسلم.
- الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
- الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال من الأحوال والتي بها وقع التحدي والتعجيز.
- التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منها للاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وكل حرف في موضعه.
- الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله على أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر -عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم وهو الأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب، وليس له بذلك علم بما عرفوا من الكتاب السالفة صحته،ولا يكون إلّا بتأييد من جهة الوحي.
- الوفاء بالوعد المدرك بالحسِّ في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه كوعد الله بنصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
- الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطَّلِع عليها إلّا بالوحي، فمن ذلك ما وعد الله به نبيه -عليه السلام- أنه سيظهر دينه على كل الأديان.
- 8- – ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام الأنام في الحلال والحرام وسائر الأحكام.
- 9- – الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
- 10- التناسب في جميع ما تضمَّنته ظاهرًا وباطنًا من غير اختلاف، قال الله تعالى: “ولَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا” [النساء: 82]. فالقرآن الكريم وحدة موضوعية واحدة وآياته وسوره بناء واحد تتناسب آياته وتتناسق سوره.
محاسن تتوالى وبدائع تترى
حصر القاضي الباقلاني وجوه الاعجاز في ثلاث وجوه يندرج تحتها غيرها، ذكرها في كتابه إعجاز القرآن، كالتالي:
الوجه الأول: الذي يتضمن الإخبار عن الغيوب المستقبلية وذلك مما لا يقدر عليه البشر كما سورة النصر قال تعالى: “إذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا”، وإخباره أن هذه البشارة ستتحقّق في وقت قريب، مع أنه لم تكن هناك أي أمارات تبعث الأمل في النصر وقتَ نزول هذه البشارة. ومثل إخباره عن انتصار الروم على الفرس، حيث قال تعالى في أول سورة الروم: “الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ”.
والوجه الثاني أنه كان معلوما من حال النبي صلى الله عليه وسلم كان أميّا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ، ولم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجميع ما حدث ووقع من الأمور العظيمة من خلق آم عليه السلام إلى بعثته صلى الله عليه وسلم.
والوجه الثالث: أنه بديع النظم عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، وقد فصّل العلماء القول في هذا الوجه بالذات سواء القدامى منهم أو المحدثون (ربما يكون محلا لسؤال آخر من الأسئلة الكبرى). والعلماء المحققون يرون أن الإعجاز قد وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد على انفراده.
يقول القاضي الباقلاني: وإن من أعجب ما يحقق الإعجاز أن معاني هذا الكتاب الكريم لو أُلبسَت ألفاظًا أخرى من نفس العربية، ما جاءت في نمطها وسمتها والإبلاغ عن ذات المعنى لا في حكم الترجمة، ولو تولى ذلك أبلغ بلغائها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ فقد ضاقت اللغة عنده على سعتها؛ حتى ليس فيها لمعانيه غير ألفاظه بأعيانها وتركيبها. فكتاب الله تعالى كما يقول ابن عطية: “لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد”، بل هو كما وصفه الله: “كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ”. حتى إنَّ “قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ وَسَامِعَهُ لَا يَمَجُّهُ، بَلِ الْإِكْبَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلَاوَةً، وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً، لَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَوْ بَلَغَ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ مَبْلَغًا عَظِيمًا يُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ وَيُعَادَى إِذَا أُعِيدَ” (انظر كتاب الشفاء للقاضي عياض). وهذا مطابق لما شهد به الوليد بن المغيرة في وقت نزول القرآن عندما سمعه. ولا يزال أثره مستمرا فلا تحسّ فيه بالإسراف ولا بالتقتير، فهو يؤدي لك الصورة وافية نقية لا يشوبها شيء مما هو غريب عنها، ولا يشذ عنها شيء من عناصرها وكمالها، كل ذلك في أوجز لفظ وأنقاه.
وجوه أخرى للإعجاز:
من رحمةِ الله بخلقه أنْ ضَمَّن القرآنَ وجوها أخرى عديدة للاعجاز حتى لا يقتصر اعجازه على العرب فقط، فقد جمع بين وجوه كثيرة منها ثبات النصوص مع تنوع وتطور تفسيرها في ضوء المعارف والعلوم المتاحة مع مواكبة المستجدات كما هو الحال في الأحكام والقضايا الفقهية، وكذلك أصول علوم التربية والأخلاق والاجتماع وغيرها، وهذا كله غير متوقف على معرفة اللغة العربية، بل يمكن متابعتها -اذا كان جادا في طلب الحقيقة والبحث عنها- عن طريق التفاسير والتراجم خاصة في ظل ما نعيشه من الانفتاح والتطور التقني. من هذه الوجوه:
- إعجاز الهداية: وهي أن هذا الدين هو دين الفطرة التي فطر الناس عليها هذا هو أثر القرآن تنطق به آياته المباركة، وينطق به كذلك واقع الناس في كل وقت، ومازلنا نشاهد هذا الأثر في نفوس سامعيه؛ خشوعاً وخضوعا للحق إذا صفت الفطرة واستقامت النفوس، وخوفاً من سطوة هذا الأثر كان هناك من يحول بينه وبين الناس؛ “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون” (فصلت:26) .
- الإعجاز التشريعي: من خلال ما جاء فيه من التشريع الدقيق الكامل الذي يتضاءل بجانبه كل تشريع أو قانون بشري. على سبيل المثال قضية تكريم الإنسان وحفظ النفس التي هي مقصد مهم ورئيس من مقاصد الشريعة، فبيّن أن الإنسان خليفة الله في الأرض، وحرَّم قتل الإنسان لنفسه (الانتحار)؛ لأنَّها ليست ملكًا له، إنَّما هي ملك لله وحدَه؛ فقال: “وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا”. كذلك شرّع القصاص قال تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، وفي المقابل تم التأكيد على تغليظ عقوبة القتل مطلقا. وكذلك التدرج في بعض التشريعات مراعاة للنفوس والظروف والأحوال مثل تحريم الخمر عبر مراحل متتالية حفاظا على نعمة العقل الذي هو مناط التكليف في الإسلام. وكذلك مثل قضية تعدد الزوجات فالإسلام لم يُنشئ قضية التَّعَدد، التي كانت معروفة وسائدة في المجتمعات السابقة قبل نُزُول القرآن، لكن رخَّص فيه وقيَّده بشرط العدل، وحذَّر أشد التحذير من الظُّلم، بل أَمَرَ بالاكتفاء بواحدة عند الخوف من عدم العدل.
- إعجاز القراءات: وهى وجه شديد الإشراق من وجوه إعجاز القرآن، فعلى سبيل المثال كلمة: “فتبيّنوا” هناك قراءة أخرى “فتثبّتوا”، وكلا القرائتين صحيحة والجمع بينهما يزيد المعني وضوحا ورسوخا.
- الإعجاز العددي: كما يوضحه ابْنُ سُرَاقَةَ: مِنْ بَعْضِ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ أَعْدَادِ الْحِسَابِ وَالْجَمْعِ وَالْقِسْمَةِ وَالضَّرْبِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَالتَّنْصِيفِ وَالْمُضَاعَفَةِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحِسَابِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ خَالَطَ الْفَلَاسِفَةَ وَلَا تَلَقَّى الْحُسَّابَ وَأَهْلَ الْهَنْدَسَةِ.
- الإعجاز النفسي: وهو موضع عناية علماء المسلمين من قديم، يقول القاضي عياض مشيراً إلى تأثير القرآن في النفوس: تلك الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيئة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله، مصداقا لقوله تعالى: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} (الإسراء:82) . فالقرآن يجمع بين إقناع العقل وإمتاع العاطفة؛ حيث إنه يصور النفس البشرية بكافة أبعادها، وجميع حالاتها، ونرى هذا التصوير يصدق على الجنس البشري في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة. وفي ذلك الجانب يقول الشيخ نور الدين عتر: في النفس الإنسانية قوتان؛ قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها: فأما إحداهما فتنقّب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا. فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟
مقدار ما يقع به التحدي من القرآن الكريم: يرى بعض العلماء ان وقوع التحدي مرة بالقرآن كله كما في قوله: “فليأتوا بحديث مثله”، ومرة بعشر سور منه ” فأتوا بعشر سور مثله مفتريات”، ومرة بسورة واحدة منه ولو قصيرة “فأتوا بسورة من مثله”، وهذه هي النهاية في التحدي.
وهنا يجدر بنا التعرض للقول بالصرفة: والمقصود بها أن العرب وهم أهل فصاحة وبلاغة كانوا قادرين على معارضة القرآن والاتيان بمثله ولكن الله صرفهم وصرف هممهم عن فعل هذا او بسلب العلوم التي توصلهم الى ذلك. لهذا يعترض البعض على هذا القول قائلين: كيف يطلب الله من العرب الفصحاء الإتيان بمثل القرآن أو بشيء منه تحديا لقدرتهم البيانية، في حين يسلبهم القدرة على المعارضة؟ والقول بالصرفة وان نقل عن بعض العلماء لكنه لا يصح التعويل عليه في هذا الباب لانه يؤدي الى ان الاتيان بمثل القرآن ممكن والامتناع انما جاء من كون الله لم يمكّن المعارضين من المعارضة، ولوكان الحال كذلك لما كان القرآن معجزا.
المحور الثاني: رد الشبهات الواردة على ما سبق
اهتم العلماء بوجوه إعجاز القرآن -كما رأـينا- من خلال كتبهم المختلفة حول الدراسات القرآنية، وفي المقابل كان هناك البعض ممن تصدوا للطاعنين في القرآن بشكل عام والمنكرين لإعجازه بشكل خاص. وسنتعرض لأهم ما يُثار من شبهات حول وجوه إعجاز القرآن الكريم.
أولا التفسير والترجمة:
التفسير والترجمة كلاهما حكاية لما يُفهم من الأحكام والمقاصد قدر المستطاع في ضوء ما لدينا من معارف وعلوم. والمهم فيهما هو بيان حقائق هذا الدين وجماله، فالحاجة إلى بيان مراد الله من كلامه أمر مشترك بين الناس.
- قد يقول قائل: من شأن الهداية البيان والوضوح وحفظ الأذهان عن التشتت، فما بال المفسرين يختلفون في تفسيراتهم؟ وكيف يعرف الحق من بينها؟
نقول في الرد على هذه الشبهة: إن القرآن لم ينزل لزمن معين ولا مكان محدد بل هو لجميع الأعصار والأمصار، ولجميع أصناف البشر على اختلاف لغاتهم وأجناسهم. ولكلٍ فيه حصة ونصيب من الفهم. والحال أن فهم نوع البشر يختلف، وذوقَه وميله واستحسانه وتأثره يتفاوت، ولأجل هذا السر أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميم ليشمل الكل. ولو كان القرآن يمكن تفسيره على وجه واحد لكان صلّى الله عليه وسلّم أولى الناس بتفسيره؛ لأنه عليه نزل وبه انفعل، ولكنه لم يفعل بل بيّن للناس على قدر حاجتهم في البيان؛ فبين له الأحكام التكليفية التي يثاب المرء إن فعلها ويعاقب إن تركها. أماغير ذلك فقد تركه دون تفسير وتعميم. فغير العربي يمكنه إدراك اعجاز المعاني من خلال فهمه لمضمون الرسائل النبوية عن طريق الترجمة وهو كاف في قيام الحجة الرسالية عليهم. ويمكن القول بأن إدراك الإعجاز يحصل للخاصة تفصيلا ولمن دونهم إجمالا.
- قد ترد عدة شبه أخرى منها أن غير العرب لا يمكنهم معرفة إعجاز القرآن. أو أن إدراك الاعجاز بالذائقة ليس ممكنا لكل أحد؟ وهذه الشبه أيضا مردودة لعدة أسباب:
- السبب الأول: أنه قد ثبت أن القران معجز للعرب وهم أهل الاختصاص، ومن ثم فهو لغيرهم أعجز من باب أولى. وفي هذا يقول الطاهر بن عاشور: “إن رِسَالَةَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بُنِيَتْ عَلَى مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُيِّدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ قَامَتْ فِي أَوْقَاتٍ وَأَحْوَالٍ وَمَعَ نَاسٍ خَاصَّةٍ وَنُقِلَ بَعْضُهَا مُتَوَاتِرًا وَبَعْضُهَا نُقِلَ نَقْلًا خَاصًّا، فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ مُعْجِزَةٌ عَامَّةٌ، وَلُزُومُ الْحُجَّةِ بِهِ بَاقٍ مِنْ أَوَّلِ وُرُودِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ وَجْهُ إِعْجَازِهِ مِنْ عَجْزِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَيُغْنِي ذَلِكَ عَنْ نَظَرٍ مُجَدَّدٍ، فَكَذَلِكَ عَجَزَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ التَّالِيَةِ عَنِ النَّظَرِ فِي حَالِ عَجْزِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ…فَإِعْجَازُهُ لِلْعَرَبِ الْحَاضِرِينَ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ، وَإِعْجَازُهُ لِغَيْرِهِمْ دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ”.
- السبب الثاني: ان الناظر في أحوالنا اليوم سيلاحظ بسهولة أن بعض العرب أصبحوا لا يتقنون العربية أصلا، فهل ينطبق عليهم ما ينطبق على غير العرب مع انهم عرب؟ اي أن تصنيفهم سيكون بحسب اللغة المستعملة ام بحسب التوزيع الجغرافي؟!
- السبب الثالث: أنه لا يشترط في المعجزة الإحساس الذاتي الفردي بالعجز عن الإتيان بها، بل المهم هو إدراك العجز الإنساني والبشري عن الإتيان بها، ولو كان هذا الإدراك عبر مقدّمات عقليّة وفكريّة، ولهذا فإن إدراك غير العربي عجْزَ العرب عن الإتيان بالقرآن الكريم، ومعرفته بأحوال النبي محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم سوف يؤديان به إلى قناعة تامّة بأنّ هذا الكتاب من عند الله.
- السبب الرابع : أن تعلم اللغة العربية ليس مستحيلا؛ بل يمكن لغير العربي تعلم العربية ومعرفة أصول وقواعد هذه اللغة وإشراقاتها البلاغية والمعرفية، بل هناك الكثيرين بالفعل؛ ملايين من الأتراك والأندونيسيين والماليزيين، بل ومن اوروبا وأمريكا يتنافسون في تعلم القرآن وترتيله وسماعه، كانوا قد تعقلوا الإسلام وفهموا معجزته وأدركوا دقائق علمه وأبدعوا بعد ذلك في التعبير عنه بل وفي اللغة التي نزل بها، وهم بالفعل يحاولون إيصال علومه إلى سواهم.
- السبب الخامس: انه لا يمكن حصر إعجاز القران في اللغة فقط كما قلنا، بل ان هناك وجوها اخرى كثيرة يمكن لغير العربي الوقوف عليها. فقصر الإعجاز على اللغة، ومن ثم قصر المعجزة على العرب فقط وكأنه يتوهم التعارض بين شمول رسالة القرآن للعالمين، وبين إنزاله بلسان عربي مبين. نقول له ان هناك قدرا مشتركا بين الجميع: بلغنا القرآن وخبر إعجازه بالنقل المتواتر إقرار العرب بالعجز عن معارضة القرآن ملزم لغيرهم.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم منه المُحكَم (أي الذي يُفهم معناه من ظاهر النص بشكل صريح) والمتشابه (أي المجمل الذي يحتمل التأويل) فقد قال الله تعالى: “هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ”. وورود المتشابه الذي يختلف العلماء حول معناه المقصود انما يعود الى طبيعة اللغة العربية، فإن أي لغة محكومة بالزمان والمكان وكذلك عقل الإنسان، فجاءت هذه الألفاظ المجازية لتقريب المعاني الى الأذهان وتكون صالحة لكل زمان ومكان، ولتفتح بابا للتعلم والتعليم وتوليد العلوم خروجا عن ضيق التقليد وتحقيقا لمقتضى العبودية لله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأخيرا نقول: إن من وجوه إعجاز القران كونه آية باقية لا تُعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفّل الله بحفظه فقال: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وقال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ”. وسائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها، فلم يبق إلّا خبرها، والقرآن إلى وقتنا هذا هو الحجة القاهرة والمعجزة الخالدة التي أيّد الله عز وجل بها رسوله عليه الصلاة والسلام، وهو الخطاب العام الموجه لجميع العقول والأفهام، وفيه الطهارة والنجاة من ظلمات الشك والأوهام، خصّه تعالى بنزوله مفرقا حسب الحوادث وتدرج الأحكام، وكان جمعه في غاية الإحكام والإتقان، حتى صار ترتيبه علما من علومه عني به المفسرون القدامى والمحدثون عناية بالغة؛ وصدق من قال: “قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا”.