يحيا العالم الإسلامي في هذه الأيام فترة من أصعب الفترات في تاريخه منذ نزول الوحي في مكة على خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، دَبّ الضعف والوهن في كثير من أوصاله، وفقدنا القوة المادية التي اكتسبتها الدول المتقدمة بالبحث العلمي والعلوم التجريبية، ولم يعد لنا مشاركة بارزة في صناعة الحضارة وإنتاج المعرفة.
ومع المحاولات الحثيثة التي تقوم بها مصر وأخواتها من الدول العربية والإسلامية اليوم للحاق بركب الحضارة وتحقيق النمو؛ إلا أن أمامنا اليوم تحديات صعبة في كثير من المجالات؛ ومن ضمن هذه التحديات هي محاولات المؤسسات الدينية والمدارس العلمية التي نشأت في حواضر العالم الإسلامي -كالأزهر والزيتونة والقرويين ومدارس العلم في الهند وبغداد والشام والجزيرة العربية وغيرها-، استعادة دورها التاريخي في تخريج العلماء الأفذاذ والقيام بواجب الوقت في التعليم والدعوة وإدراك الواقع كما هو عليه للربط بين حياة الناس بكل ما جدّ وتجدد فيها وبين الحكم الشرعي ومقصود رب العالمين من المكلفين، ليكون المسلم على اختلاف تخصصه ومسئوليته وموقعه في الدولة والمجتمع خاضعا لعلوم هؤلاء الأئمة والعلماء في أمور دينه، متقبلا نصحهم، حيث كانت جسور التواصل سارية بين الأمة كلها وعلمائها فلم يقتحم الدعوة وتعليم العلوم الشرعية من ليسوا من أهلها، ولم يتصدر للإفتاء إلا أئمة العلم والدين.
ومع هذا التراجع الحضاري، والانبهار الشديد بالغرب وإنتاجه المادي والثقافي، ولت العقول والأفئدة شطر الحضارة الغربية مستهلكة كل شيء تصدره لنا، بما فيها العقائد والأفكار.
* * *
منذ قرنين من الزمان كان العالم الأزهري الشيخ محمد الفضالي إذا توجه لدرسه بالجامع الأزهر يركب الحمار من الموقف المخصص له، وكان للحمار صاحبا يرافق الراكب ليوصله ثم يأخذ أجرته، فكان الشيخ الفضالي كلما ركب مع أحد هؤلاء الحمارين من بيته للأزهر يشرح له شيئا من علم التوحيد ويقرر له مسائله بسهولة ثم يراجعها معه في رحلة العودة، وأصبحت هذه هي عادة الشيخ الفضالي فلم يمض زمان طويل حتى أصبح غالب “الحمّارين” في القاهرة يتقنون علم التوحيد.
كما كان عوام المسلمين في بلاد المغرب العربي يحفظون عقيدة الإمام السنوسي المسماة بأم البراهين وهو متن مختصر في علم التوحيد كما يحفظون السورة من القرآن.
أما اليوم في العالم الإسلامي ظهرت بعض الفرق والجماعات الإسلامية التي تحرم النظر في كتب الفلسفة والكلام، وتراها لغوا لا فائدة فيه، أو بِدعة لم يشتغل بها الصحابة والتابعون حتى وصل الأمر بأن يقول ذلك بعض أساتذة الفلسفة في كليات أصول الدين ودار العلوم، وإذا تساءل أحد الشباب عن فكرة أو إشكال يدور حول الألوهية أو الوحي أو الدار الآخرة زُجر ونهي عن السؤال كأنما أخطأ أو أجرم، ثم يطالبونه بالتسليم والتفويض من دون بحث أو نظر.
وصرنا نسمع كثيرا من الناس يقولون: إن الإيمان بالله “شأن قلبي” ليس عليه دليل من عقل أو احتجاج بنظر، وأصبحنا مع كل ثغرة معرفية في ميدان العلم التجريبي نقدم لها تفسيرا وسدا بواسطة الوحي أو الغيب، ومع ضعف مستوى التعليم الديني في المعاهد والمدارس اليوم، وقلة الاهتمام بتربية الطفل والمراهق دينيا نشأ عند قطاع عريض من الشباب حالة من “الأمية الدينية” ورثنا بها خطابا دينيا: “لا عقلانيا”.
* * *
مع استفحال الفكر الرأسمالي، لم تعد الأشياء فقط ما يباع ويشترى بل تحول الإنسان والأفكار أيضا إلى سلع يراد تسويقها، وصار الخطاب الديني سلعة لها جمهورها، فنشأت فضاءات متعددة للدعوة والدرس الديني، كالإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، والدروس الخاصة المقامة في البيوت، وبعض حلق العلم في المساجد، وصار المحتوى الغالب على هذ الخطاب شديد السطحية والبعد عن قضايا العصر وواجب الوقت، ولضعف العلم والتربية الدينية، كثرت الفتاوي الشاذة، والتعليقات السمجة ، فظهر من يلوم الضحية ويعتذر للجاني باسم الدين، وظهر من ينشر البذاءة والقبح في مواجهة الخصوم ثم يلهث في البحث عن دليل شرعي لها، ويتقول على الله ورسوله ، وينسب لهم السب والشتم، وظهر من يحلف للناس كذبا كي يظهر التواضع والتعفف عن الدنيا وهو لها راغب، وظهر من يتاجر بآلام الفقراء والمساكين، وبسطاء المسلمين المتدينين فيشتري بالشعارات الدينية أصواتهم في الانتخابات، ومهما زلت قدمه أو أخطأ منطقه صار يبحث عن مستند للخطأ والزلل في الشرع حتى لا ينزل في عين أتباعه، وظهر من يأخذ على يد المظلوم ويترك الظالم خوفا منه أو طمعا فيما عنده، أو من يشتري رضا الجماهير بسخط الله، كل ذلك وأكثر جعل قطاعا عريضا من الشباب لا يرون في الخطاب الديني إلا أنه خطاب: “لا أخلاقي” .