حقوق الإنسان في الإسلام
-حين ينظر الإنسان في هذا العصر إلى الحقوق الكثيرة التي كفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويرى كذلك الحقوق التي انتزعتها الحركات العمالية واليسارية في الشرق والشرق، يتساءل ما دور الأديان في هذا المجال، ولماذا لم نسمع عن تلك الحقوق قبل ذلك؟
تكريم الحق سبحانه للإنسان
لما خلق الله سيدنا آدم أبا البشر كرمه بأن نفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، ووهبه العقل والحكمة، ثم كرّم ذرّيتــه بالتكاليف الربانية، وحمل أمانة معرفة الله وعبادته، وأرسل له الرسل والأنبياء، وأنزل عليه الكتب والشرائع؛ هداية له من الضلال، وشفقة عليه من الغواية والانحراف عن الصراط المستقيم، ثم سخر له الكون، وأسبغ عليه نعمًا عظيمة بداية من محياه وحتى مماته. قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } [الإسراء: 70].
ومن أجل القيام بحمل أمانة التكليف، والاستخلاف في الأرض، ومن أجل أن تتحقق عبادة الله وتزكية النفس على الوجه والأكمل وهي مقاصد الخلق؛ وهب الحق سبحانه لهذا الإنسان حقوقًا شريفة، تبعث على استقرار النفوس، ونشر الخير في المجتمع، وإقامة العدل بين الخلق، وهو الميزان القسط الذي أنزله لصلاح أحوال عباده.
فجاء الإسلام بتشريعات متعددة تؤكد كرامة الإنسان وتحمي حقوقه وتضمن احترامه، عبر أوامر ونواهي شرعية تضمنت حماية حياته وماله وعرضه ونسله وعقله ، وغيرها من مقاصد الشريعة الملحوظة في غالبية الأحكام.
ولذلك كان الدين والشرائع السماوية هي أول من نطقت بحقوق الإنسان وجاءت بها، ليس هذا فحسب بل علقت الثواب والعقاب على الالتزام بها واحترامها، فجاء المدح والوعد بالنعيم في الآخرة والصلاح في الدنيا، لمن قام بهذه الحقوق ورعاها، وجاء الوعيد والذم لمن استهان بها أو أعرض عنها، قال سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وفي العصر الحديث ظهرت بعض المواثيق والعهود التي تتكلم عن حقوق الإنسان، والتي كانت نتاج قرائح البشر، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومن أشهرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في العاشر في ديسمبر سنة 1948 ، وعقب صدور هذا الإعلان كثر الحديث عن مفهوم الحقوق والواجبات، وأهمية حقوق الإنسان في الدول والمجتمعات.
المبادئ التي قامت عليها حقوق الإنسان في الإسلام
وقد قامت فلسفة حقوق الإنسان على جملة من المقاصد والمفاهيم العامة والتي يعود كل حق من هذه الحقوق إليها فمنها: أ- الكرامة الإنسانية؛ فالتشريف الذي أعطاه الله للإنسان، وما ميزه به عن بقية الحيوانات والكائنات أوجب له جملة من الحقوق التي تحفظ آدميته، وتنأى به عن الانحطاط في السلوك والمشاعر والغايات، ومن هذه المبادئ أيضا: ب- عبودية الإنسان لله ورحمة الخالق به، وإقرار بني آدم أنهم مخلوقون ومكلفون من ربهم، وأن لهم حقوق وعليهم واجبات نحو خالقهم، ولذلك لا يجوز في الإسلام الانتحار، لأن روحه ونفسه ليست ملكًا له، بل هي ملك خالقها وبارئها، فجاء النهي في الإسلام عن قتل النفس، وعلل الحق سبحانه هذا بأنه كان بنا رحيما، ومن ضمن آثار هذه الرحمة أن الله لا يكلف الإنسان والعبد ما لا يطيق، وأن الشريعة وأحكامها جاءت لرفع الحرج والضيق على المكلفين، فلا يطالب المسلم في علاقته بأخيه الإنسان أو في عبادته لربه بأمر تنفر منه الطباع أو يشق على النفوس مشقة لا حكمة منها، بل كانت الواجبات كلها يسر ومصلحة في حق العبد.
ومن المبادئ العامة التي قامت عليها حقوق الإنسان في الإسلام ج-صلاح المجتمع، فالإسلام كما يهتم بالحقوق الفردية، لا يهمل الحقوق الجماعية، بل يرعاها ويحرص عليها فجاءت التشريعات التي تحافظ على الأسرة من التفكك، والدولة من الانهيار، والمجتمع من الرذيلة، ومن هنا حذر الله من السلوكيات التي تضرّ بأمن المجتمع وسلامته كالزنا والسرقة والحرابة والخروج على جماعة المسلمين، وجعل للتحذير منها عقوبات رادعة.
ومن أهم المبادئ التي قامت عليها حقوق الإنسان في الإسلام د-تحقيق مصلحة الإنسان، والمصالح المعتبرة هي المصالح الحقيقية، وهي ترجع إلى أمور خمسة: حفظ الدين, وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، لأن هذه الأمور تقوم بها حياة الإنسان وتتحقق بوجودها كرامته ومقصد تكليفه بالطاعات.
حقوق الإنسان الاجتماعية في الإسلام
من أهم الحقوق الاجتماعية التي أقرها الإسلام عدم التمييز بين إنسان وآخر بسبب الفرق في اللون أو الجنس أو العرق أو اللغة واللسان، فجاءت النصوص الشرعية العامة تدعو إلى ذلك كما في قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وعملا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “لا فضل لعربي على عجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى”، وقوله أيضا: “النساء شقائق الرجال”.
ومن هذه الحقوق الاجتماعية حرية العقيدة وعدم جواز إكراه الإنسان على اعتناق دين غير دينه بالإكراه أو الإجبار؛ لأن العقيدة أمر قلبي لا مجال إلى الخلق بالاطلاع عليه إلا بما تدل عليه من سلوك، فقال سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ، وقال أيضا {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]
ومن هذه الحقوق أيضا حرية الإرادة الإنسانية، وعدم سلب إرادة عنه ما لم يستدع ذلك؛ لأن شرط التكاليف الاختيار، وكرامة الإنسان تستلزم كونه مالكا لأمره، مسؤولا عن تصرفاته، فجاء الشرف متشوفًا إلى تحرير الرق والعبيد في زمن كان النظام العالمي كله يرسخ لفكرة العبودية، ولا ينكرها، فكثرت الأوامر الشرعية التي تدعو إلى تحرير العبيد والإماء فكانت إحدى كفارات اليمين عتق رقبة، وجعل من مصارف الزكاة لعتق الرقيق، وحث النبي كثيرا على عتق العبيد لوجه الله فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: الرجل تكون له الأمة فيعلمها فيحسن تعليمها، ويؤدبها فيحسن أدبها، ثم يعتقها فيتزوجها فله أجران”، وكذا يقول عليه الصلاة والسلام: “من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار”.
حقوق الإنسان السياسية في الإسلام
جعل الدين الإسلامي الأمة هي صاحبة السلطة، فهي التي تختار الحكام، وهي التي تقومهم، وكذلك هي التي تعزلهم إذا حادوا وانحرفوا عن طريق العدل والإصلاح، وللناس في المجتمع على الحاكم- حق النصح والإرشاد، وله عليهم السمع والطاعة في المعروف؛ ولأهمية ولاية الأمر ووجود المسؤولين في كل شأن، حفظا للنظام وتحقيقا للعدل والأمن، أوجب الإسلام على الأمة نصب الإمام، وحدد صلاحياته وشروطه، وواجباته على المحكومين مثل حفظ الدين وإقامة الشعائر والعدل بين الناس والانتصار للمظلوم من الظالم، وغيرها، وشدد النبي على ذلك فقال: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.
ومن ضمن ما كفله الإسلام في الحقوق السياسية حق الشورى والأخذ برأي أهل الحكمة والاختصاص، فهي مشاركة في صنع القرار، وإشعار بأهمية كل إنسان في تحديد مصير وطنه وأمته، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في ذلك عندما أمره ربه سبحانه أن يستشير أصحابه فقال له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، ولأهمية الشورى وعظم قدرها جعلها الله سبحانه قرينة الصلاة والصدقة واجتناب الفواحش فقال سبحانه {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
حقوق الإنسان الاقتصادية في الإسلام
نظم الإسلام رؤوس الأموال، وحال دون ما يمنع من الاستغلال أو الغش أو الاحتكار، وساهم في منع تضخم الثروات عن طريق التشريعات التي كفلت التضامن بين المؤمنين مثل الزكاة والإرث والوصية والصدقات والكفارات وغيرها.
كما أن الإسلام وضع أسس العدالة الاقتصادية، واهتم بحقوق العمال والأجراء وإعطائهم ما يستحقون من أعمال، وعدم بخسهم حقوقهم، واهتم بقيمة التراحمية في المجتمع بين الغني والفقير، فذمّ النبي صلى الله عليه وسلم من بات شبعان وجاره جائع، كما فرض الإسلام على بيت المال الإنفاق على غير المستطيع على الكسب، كالشيخ الفاني، والمرأة العجوز التي ليس لها زوج أو والد أو مال، ولا فرق بين المسلم وغير المسلم في ذلك.
كما شدد الإسلام على قيمة الملكية الخاصة وحرم الاعتداء على أموال الآخرين أو أملاكهم بغير إذن أو تعويض، وحذر من الخداع أو الغش في المعاملات المالية وفي البيوع والتجارة، وشدد على حرمة المال الخاص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم “من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله”.
كما أن الإسلام جعل الطبيعة بثرواتها ملك لله، وعي هبة منه للخلق، وحرم إفسادها وتدميرها، وحرم كذلك منع الخلق من الاستمتاع بها والانتفاع بما يسره له فيها، فجاءت الأحاديث النبوية تقول إن الناس شركاء في الماء والكلأ والنار، تأكيدًا على أن الله سخر لنا ما في السماوات وما الأرض من أجل المصلحة العامة والخاصة لكل فرد.
حقوق الإنسان المدنية في الإسلام
حرص الإسلام على إرساء قيم التحضر والكرامة الإنسانية في المجتمع، واهتم بالعدل بين الناس، وجعل نظاما للتقاضي بين الناس إذا حدث التنازع والشقاق، ثم اهتمّ بوضع معايير دقيقة للنظام القضائي في الشهادة والإثبات وإقامة الدعاوي، وحذر من شهادة الزور والتجني على الناس بالباطل وبغير الحق، ثم كفل لكل متهم محاكمة عادلة أكد على كونه بريئا فيها حتى تثبت إدانته.
ومن ذلك أن الإسلام اشترط في بعض الجرائم كجريمة الزنا وجود أربعة شهود لإثبات التهمة، وجعل رؤية الشهود للجريمة لها معايير خاصة ووصف دقيق وليس مجرد اجتماع الرجل والمرأة في مكان واحد، كما حذر الإسلام من التلاعب والتعصب في الدعاوي بغير حق وبغير دليل، ودعا إلى الإنصاف وعدم التجني على الناس بسبب الكراهية أو العداوة، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
كما كرم الإسلام مبدأ الأخوة بين الناس في التعامل بين أفراد المجتمع وأكد على المساواة بين الناس بغض النظر عن اختلافهم في المال واللون والجنس، وأكد على العدالة الاجتماعية ورفع الظلم على أساس الطبقة أو الثروة، ويبين أن من أسباب فساد المجتمعات وهلاكها التمييز بين الشريف والوضيع في الامتيازات والحقوق ويجعل الناس كلهم سواسية أمام القانون، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم “إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها”.
وكذلك رفع الإسلام من قيمة العلم والعلماء، ودعا المؤمنين إلى طلب المعرفة، فقال سبحانه {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، ثم أكد أن طلب العلم وتعليمه فرض ديني وواجب شرعي، فقال رسولنا الكريم: “كلب العلم فريضة على كل مسلم” ، وهذا يقتضي توفير أسباب العلم والتعليم للخلق والمكلفين في المجتمع وإعانتهم عليه ومساعدتهم في تحصيل أسبابه.